بعد غياب طويل عن عالم الرواية يعود الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة إلى هوايته الأولى برواية تصدرها دار العين بعنوان ''سُوناتا لِتِشْرين''، كتب عكاشة في مقدمتها ''لم أستطع أبدًا نسيان الحب الأول وظللت متشبثا بالأرض التي شهدت فجر موهبتي وحرصت على بقاء انتمائي الأول لأصولي الروائية والقصصية، حيث يمارس الكاتب فيها حريته الكاملة ويتسع أمام فضائها غير المحدود.. وآليت على نفسي أن أكتب رواية أو مجموعة قصصية وأقدمها للناس كل عام''. تبدأ رواية ''جنة مجنون'' بتوصل السارد المجهول الاسم بسلة زهور ورسالة قصيرة من صديق الطفولة عاطف درويش ''كيف يمكن للإنسان أن ينسى الطفل الأول؟ ذلك الذي عذبه وأرقه وأشقاه؟''، وقد كان صديقه قد حرم مثله من حنان الأمومة وفجع برحيل الأم في سنواته الأولى، وربما هنا يكتب أسامة أنور عكاشة عن ذلك الطفل يتيم الأم الذي كان.. فكان وصفه صادقا لمعاناته النفسية ونظرات الآخرين إلى هذا الطفل الذي ''لا يأنس للأغراب ولا يستسلم لملاطفات الأقارب''.''جنة مجنون'' رواية سرد نفسي بامتياز.. رواية سرد البوح والاعتراف، لكن لغتها تجنح إلى الشعر وتحس أن في أعماق الأستاذ أسامة أنور عكاشة شاعرا مجهضا، وهذا ما يسميه النقاد ب''شعرنة السرد'' كما يتجلى بوضوح حين وصف الكاتب اختفاء عاطف المفاجئ بسبب موت جدته، وانتقاله إلى بورسعيد ليكفله أبوه ''انقطع ذلك الخيط الحريري الذي جمع بين اليتيمين وانفصمت عرى صداقة صنعتها الأحزان المتساندة في بكور الفجر''. ويختتم أسامة انور عكاشة روايته بالفصل الثالث عشر. الطريف في الأمر أن الكثيرين يتشاءمون من الرقم 13 حتى أن الكاتب إحسان عبد القدوس كان كلما بلغ هذا الرقم، دعا أحد الحاضرين ليكتبه بدلا عنه... في الطائرة يغفو السارد بعد احتساء جرعتين من الشراب الذي قدم إليه، ولم يستيقظ في مقعد الطائرة ولا في السيارة التي أقلته إلا في غرفة في ''نزل فخر الدين الكبير'' في ضيافة ضيعة عاطف بك درويش.. في ضيافة النسخة اللبنانية من صديق الطفولة. ووجد نفسه في طائرة تقله لوحده، وأتته المضيفة بأوراق ليوقع عليها وذهل برؤية اسم عاطف درويش تحت صورته.. كيف فعلها؟ كيف طمس اسمه الحقيقي من ذاكرته وأوراقه الرسمية حتى صار رجلا بلا اسم ولا هوية ولا وطن؟ ثمة قراءة مفادها بأن عاطفا لم يكن سوى السارد، ربما لأن الكاتب لم يحدد اسم الراوي طوال فصول هذه الرواية المرآوية والتي رغم قصرها يصعب اختزال تفاصيلها الصغرى وتلخيص أحداثها.