حديث اليوم عن عالم يختلف عن كل من كنت حدثتكم عنه من العلماء، فليس في التقى والصلاح كأحمد بن حنبل، ولا في الاجتهاد والفقه كأبي حنيفة، ولا في الزهد والورع كسعيد بن المسيب، ولا في الجرأة والصراحة كالحسن البصري، ولا في الرواية والحفظ كالبخاري، ولكنه يمتاز بشيء غير هذا كله، بالنبل والسيادة، والشخصية الاجتماعية القوية، وأنه رجل بلاط، ورجل دين، في وقت معا، سيطر على أقوى الخلفاء العباسيين، عقلا: المأمون، وأقواهم جسما: المعتصم، وكان له عليه سلطان عجيب، وكانت كلمته لديه هي القانون، ولطالما سخر هذه المنزلة لرد المظالم، ورفع الأذى، وإقامة الحق، ولطالما استنقذ بها أناسا من تحت سيف الجلاد، ولكن على هذا كله كان يعمل على نصر مذهب المعتزلة وإيذاء أئمة السنة. هو أحمد بن أبي دؤاد وهاكم بعضا من مواقفه أسردها على سبيل التمثيل، لا على قصد الاستقصاء، كانت الدولة قسمين، تركية وعربية، والجيش جيشين: أتراكا وعربا، وكان زعيم الأتراك على عهد المعتصم، (وهو الذي فتح هذا الباب، وزرع هذا السم، وجاء بالأتراك) كان زعيم الأتراك الأفشين، فاعتد على أبي دلف (وكان من أكبر زعماء العرب) ذنوبا، حكم عليه فيها بالقتل، وبلغ الخبر ابن أبي دؤآد فذهب إليه، وما كان من عادته أن يزوره، فأرادوا إدخاله البهو الكبير حتى يفرغ الأفشين فيستقبله فأبى ودخل مجلسه، وأبو دلف مقيد في وسطه، والسياق على رأسه، والأفشين يقرعه ويشتمه، وأبو دلف (إن كنتم لا تعرفونه) هو بطل العرب، الفارس الجواد الممدح الذي قال فيه العكوك الشاعر: إنما الدنيا أبو دلف بين بادية ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره فراح ابن أبي دؤاد يستعطف الأفشين، ويلين قلبه، ليعفو عن أبي دلف، وهو لا يزداد إلا عتوا، فلما رأى الجد منه، وعلم أنه إن خرج قتل أبو دلف، أقدم على أمر عظيم، لا يقدم عليه غير فقال له: إلى متى أستعطفك وأسألك وأنت تأبى؟! إني رسول المعتصم إليك، يأمرك أن لا تحدث بأبي دلف حدثا، وإن مسه سوء أو قتل، فإنه قاتلك به. وقال للحاضرين: اشهدوا على أني بلغته رسالة أمير المؤمنين، والقاسم (أي أبو دلف) حي معافى، وتركه وقد صار وجهه بلون الزعفران، وذهب من فوره إلى المعتصم، فقال له: لقد بلغت رسالة عنك ما أرسلتني بها، وأخبره الخبر، فقال له المعتصم: نعم ما فعلت، وكف يد الأفشين عن أبي دلف. وغضب المعتصم مرة على خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، الفارس العربي البطل، ابن الفارس العربي البطل، الذي قال الشاعر في رثاء أبيه، هذه القصيدة النادرة المثال، المنسوبة لصريع الغواني ومطلعها: أحق أنه أودى يزيد تبين أنه الناعي المشيد ومنها: أحامي الملك والإسلام أودى فما للأرض ويحك لا تميد تأمل هل ترى الإسلام مالت دعائمه وهل شاب الوليد؟ وتشفع فيه فلم يشفعه المعتصم، فجلس دون مجلسه المعتاد، فقال له المعتصم: مجلسك يا أبا محمدا! قال: ما ينبغي لي أن أجلس فيه، لأن الناس يظنون إن جلست فيه أن لي من أمير المؤمنين ما أشفع به فأشفع، قال: عبد إلى موضعك. قال: مشفعا أو غير مشفع؟ قال: بل مشفعا. قال: إن الناس لا يعلمون أنك عفوت عنه حتى تخلع عليه، فأمر فخلع عليه، قال: يا أمير المؤمنين، إن له رواتب ستة أشهر فمر له بها تقم مقام الجائزة. فأمر له بها، فخرج والخلع عليه والمال بين يديه، فناداه رجل: مرحبا بك يا سيد العرب، قال: اسكت ويحك: سيد العرب ابن أبي دؤاد. وغضب المعتصم مرة على رجل من أهل الجزيرة، وجاء به ليقتل على ذنب أتاه، فتكلم فيه ابن أبي دؤاد، ثم غلبه البول (ولا مؤاخذة) فخاف إن خرج ولم يستوف الكلام أن يقتل الرجل، ولم يعد يطيق الصبر، وكانت ثياب تلك الأيام كثيرة، فجمع ثيابه تحته وبال فيها! وأنقذ الرجل. فلما قام قال المعتصم: ما لثيابك مبتلة، فسكت. فأعاد عليه. فأخبره الخبر. فكاد يغشى عليه من الضحك. وكان المعتصم يرد الشيء اليسير يسأله، فيدخل عليه ابن أبي دؤاد، فيكلمه في أهل الثغور وأهل الحرمين وأهل المشرق فيجيبه. وسأله مرة صرف ألف ألف درهم (مليون درهم) لحفر نهر في أقصى خراسان وجر الماء إلى بلاد هناك عطشى. قال المعتصم: وما عليّ من هذا النهر؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الله يسأله عن أقصى رعيتك. كما يسألك عن أهلك ومن حولك. ولم يزل يرفق به حتى أمر بصرفها. وله مع المعتصم لما مرض واشتد عليه المرض خبر عجيب، إذ جاء يعوده، ورأى الموت بين عينيه، فشكا إليه المعتصم ما يلقى من الألم. فقال: يا أمير المؤمنين إن في السجون آلافا من الأبرياء، وهم وأهلوهم يدعون عليك، ودعوة المظلوم سهم صائب فلو أطلقتهم، لانقلبت هذه الألسنة بالدعاء لك. فأمر بإطلاقهم. قال يا أمير المؤمنين: إنهم يعودون إلى أهليهم صفر الأيدي، ما معهم شيء، فلو أمرت أن ترد عليهم أموالهم ويعطوا العطايا. فأمر بذلك. وله أخبار كثيرة لا يتسع لها المجال، ولو أن كل عالم يتصل بالحاكم، يسير معه هذه السيرة، ويتخذ منزلته وسيلة لرفع الظلم، ورد الحق، وإقرار العدل، لصلح الحاكم وصلح أمر الناس.