وأنا أشق طريقي مسرعا متضارب الخطوات وعجلتي الدائمة كجزائري وبين ضوضاء شوارع المدينة والصوت المزعج للباعة المتجولين، الذين غزوا الأرصفة والطرقات، وأنا أحمل هموم عمل ينتظرني وحكاية أمة عالقة في ذهني، وبالنظر لحالة المجتمع ونسبة البطالة التي ضربت الأرقام وسبقت الأعداد وبالنظر أيضا لسياسة ''النورمال'' التي تعرف بنا ولنا، وبالنظر أيضا لهم أمة أحمله بين جوانحي منذ أمد بعيد فإن الأمر يهون مقارنة بظاهرة عمالة الأطفال التي اجتاحت مجتمعنا الأبي بصورة فظيعة. هذه الظاهرة الحديثة التي تدمر حياة أولئك الأطفال والمجتمع بشكل عام لم يعرفها مجتمعنا الذي رفض مسح الأحذية وحرم كل عمل ينقص من شأن الفرد الجزائري الذي يصل به الأمر أحيانا للغرور، وهذا في الحقيقة أمر يسعدني خفية ويحاول عقلي التكتم عليه خوفا من أن أتهم بالرجعية والتخلف التي ارتبطت في وقتنا الحاضر بالمظاهر المزيفة .. وأنا أحاول أن أخفي الألم الذي رأيته، حتى يرتمي أمامي أحد الأطفال الصغار وهو يحمل رزمة من الجرائد المتنوعة وهو يصيح بأعلى صوته: جريدتك يا أستاذ .. جريدتك يا أستاذ .. وأخرج من بين ما حمل جريدة ''الحوار'' التي أعمل لها، وبين دهشتي من معلوماته الغريبة وحيرتي على حالنا وغيظي الشديد عندما رأيت تلك البراءة في عينيه فرحا بما آل إليه، وأنا مذهول بما رأيت وفي حركتي السريعة قاطعت تلك الأفكار والحوارات التي كانت في داخلي مخرجا بعض الدنانير التي كنت أهم أن أصعد بها في الحافلة وأضعها في يد صغيرة ملئت أطرافها بسواد ألوان الجرائد .. سواد غطى خشونة يد بالغة أعدت الكثير غير بيع الجرائد .. وأنا املك تلك اليد وأنظر إلى تلك البسمة التي مزجت بلون من الخوف من إجحاظ عيني فيه، وإذا به يقاطعني بكلمات أفسدت يومي قائلا لي: يا أستاذ سأغسلهما قبل ما أروح للمدرسة فلا تقلق .. وبشهامة بلغت ذروتها طمأنته أنني أود أن اشتري عنه تلك الجرائد التي في يده والتي ضمنت حياة ما ينتظره على باب الدار، شرط أن يحاكيني قليلا عن حياته التي بدت لي ... حياة سعيدة ؟... اسمه بدر وهو ابن التاسعة من عمره، أبوه توفى مدافعا عن الجزائر في نكبتها، وأمه مكثت في أركان البيت واستسلمت للاأمل ، فصار الولد أبا ومسؤولا يقتات من أي شيء، لأجل دراهم معدودات يسد بها رمق عائلته الصغيرة التي أغلقت الأبواب والنوافذ على الدنيا، وتركت ابنها بدر يخط طريقا في عالم قاهر لبراءته ومدمرا لابتسامته التي تخلو من خوف يحدق به من كل جانب، طريقا شائكا ينتزعه الطفل الرجل بدر عند باب المدرسة التي يواضب عليها باستمرار، ويحصد النقاط الأولى في كل المواد، متحديا كل العالم وكل أترابه ممن سكنوا العلا وتلبسوا المظاهر الراقية، أن الرجل قلب وليس شكلا.. وكم من رجل بطول الطول وعرض العرض وهو ينتظر صدقات أمه أو حتى أخته العاملة في الصباح كي يصرفها على قهوة وسيجارة و''جال'' لشعره الناعم، وهو في قمة استعراضه لروحه المريضة التي يخالها نفسا زكية، متسكعا طوال اليوم في النظر للبنات الطالعات والنازلات، وقد لبس سترة شد البعض منها وسروالا قطعت أطرافه، وبمجرد التفكير في الطفل بدر ومقارنته بهؤلاء فالكل يتوقف لأننا لا نجد ما ننادي به هؤلاء القوم إلا أنهم أشباه رجال ...أو ربما .. رجال من ورق ...!!!!! هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته