حياة جديدة تدب في دمشق، عشرات المطاعم والحانات ظهرت في الأعوام القليلة الماضية بأسماء تاريخية شهيرة، إنها حمّى التجارة بالتاريخ، والتي تبدأ أعراضها بقيام السوريين بشراء المنازل العربية القديمة التقليدية ذات الأفنية المفتوحة، والتي هجرتها الأسر الدمشقية للسكن في الشقق الحديثة. ثم يقومون بتحويلها لمقاهي ومطاعم يختلط فيها النسيم المعبق بالياسمين بدخان النرجيلة ورائحة الأسماك واللحوم المشوية على الجمر، وكان من ضمن هذه البيوت منزل الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق، والذي تحول بدوره الآن إلى مطعم سياحي كبير. قبل فترة ليست طويلة كانت حياة الليل في دمشق تقتصر على حانات رثة أو فنادق خمسة نجوم لكن الحال تغير الآن. ففي حانة مرمر في حي باب توما يحتسي الرجال والنساء الخمر ويرقصون طوال الليل على أنغام الموسيقى الغربية والعربية، وفي مطعم اليسار المجاور يتجمع خليط من السوريين واللبنانيين والأوروبيين حول موائد تغطيها أطباق المزة حول النافورة بوسط فناء بيت قديم بني في القرن التاسع عشر، ومزين بالرخام المشغول وتوج بسقف خشبي مرسوم. وبعد مسافة في الشارع نفسه يوجد مطعم أوكسجين الذي يفتح أبوابه حتى وقت متأخر من الليل، والذي تصدرت أخباره عناوين الصحف عندما طرد صاحبه القنصل الأمريكي في دمشق احتجاجا على الهجمات الصهيونية على الضفة الغربية. ويقول ستيفان ويبر، المؤرخ المعماري الذي عمل في المعهد الألماني في دمشق عامي 1994 و1995: »بدأت المطاعم تفتح... والآن يلجأ مزيد من السكان لترميم المنازل الخاصة بالمدينة القديمة، يفعل ذلك من يقدر، بدمشق ألوف من المنازل القديمة وهذه هي كنوزها الحقيقية«. 17 ألف منزل أثري على وشك أن تصبح مطاعم دمشق القديمة، التي ربما تكون أقدم مدينة ظلت مأهولة باستمرار في العالم، تتكون من شبكة من الحارات المتعرجة تتناقض جدرانها المتواضعة مع القصور الفارهة التي تخفيها، وبالداخل تخفف الأشجار من الحرارة في الأفنية الواسعة المحاطة بالحجرات ذات الجدران المنقوشة وأحيانا الموشاة بالذهب. وفي الخارج يجاهد راكب دراجة للحفاظ على توازنه وهو يحمل شرائح رصت عليها أرغفة الخبز، وتبيع متاجر صغيرة أدوية طبيعية لكل الأمراض في الحارات التي يختلط فيها عبق التوابل بعبير الأعشاب. وظلت المدينة القديمة ذات الحمامات التركية والخانات ذات القباب مهددة على مر العقود بانتشار المباني الإسمنتية الحديثة التي تهيمن على هذه الواحة القديمة. ويقول أحد الباحثين إنه في حين فقدت عواصم تاريخية أخرى في المنطقة مثل القاهرة واسطنبول أغلب منازلها القديمة ولم تبق سوى على الآثار التاريخية، فإن دمشق مازالت تحتفظ بنحو نصف 16832 منزلا كانت مسجلة عام 1900 في عهد الدولة العثمانية. تاريخ إنساني لا يحق لأحد التصرف فيه ووصفت منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) دمشق بأنها ميراث ثقافي عالمي وفي السبعينيات أقرت سوريا قانونا يحظر الهدم داخل أسوار المدينة القديمة، غير أن ثلثي المباني التاريخية في دمشق يقع خارج جدران المدينة القديمة في مناطق مثل سوق سروجية والصالحية التي كانت ذات يوم قرى مستقلة وضواحي اندمجت منذ زمن بعيد داخل دمشق. وبدأ المعهد الفرنسي مشروعا في عام 1990 لوضع خرائط وتسجيل المباني التاريخية خارج أسوار المدينة القديمة مما يتركها عرضة للجرافات مع المد العمراني والنزوح إلى العاصمة. وقال ويبر »حتى إذا خصصت أموال كثيرة لحماية المدينة فإنها لن تكفي... نحتاج لاستثمارات خاصة ودون ذلك لا يمكن إنقاذ المدينة«. وأضاف، أن عشرات المطاعم والمقاهي التي افتتحت ليست كافية. وداخل الجدران هناك العديد من الحارات التي لا يسمح ضيقها بمرور سيارة ويسعى العديد من الناس إلى ترميم المنازل القديمة ليس فقط لإقامة مشروعات فيها بل أيضا للسكن. مشاهير السياسة العرب وراء هذا التحول جدير بالذكر أن عدد من مشاهير العرب وراء تحول المنازل التاريخية في دمشق الى مطاعم، فمثلا ترمم نورا جنبلاط الدمشقية المتزوجة من زعيم درزي لبناني بيت مجلد الذي وصفته الكاتبة بريجيد كنعان في كتابها »دمشق... الكنوز المخبأة في المدينة القديمة« بأنه »أحد أجمل المنازل في المدينة القديمة«. وكتبت تقول إن البيت كان مملوكا لأحد جباة الضرائب في الدولة العثمانية وانه أعاد بناء المنزل في الفترة من 1840 إلى 1877. وترمم الشيخة الكويتية حصة الصباح ثلاثة منازل في المدينة القديمة، ويقع مقر المعهد الهولندي في بيت العقاد القديم وهو قصر مرمم وسط سوق قديم. ويرمم علي الأتاسي إبن الرئيس السوري السابق منزلا ذا أعمدة رومانية يقع خلف المسجد الأموي المبنى في القرن الثامن ويعد درة المدينة القديمة، وتشاهد الأعمدة الرومانية في العديد من المنازل والحارات. وفي حين يرحب الخبراء بالاهتمام بالمدينة القديمة إلا أنهم قلقون من أن تضر أعمال الترميم غير المدروسة بالآثار أكثر مما تفيدها، ويقول ويبر »جميل أن يفكر السكان في القيام بدور... لكنهم للأسف لا يعرفون في أغلب الأحيان ما يجب عمله ويحتاجون لإرشادات لا توفرها الحكومة المحلية«. ويقول المعماري السوري حكمت شطا، الذي اشترى منزلا من القرن التاسع عشر في عام 1996 ، إنه يرحب بنمو المقاهي والمطاعم لأنها تجذب السياح والعملات الصعبة للمنطقة، لكنه يحذر من هذا الاتجاه إذا تنامى دون تخطيط سليم فإنه قد يغير من شخصية الأحياء القائمة. وقال »أريد أن تصبح المدينة القديمة مدينة حقيقية حيّة وليس مجرد موقعا سياحيا أو متحفا مفتوحا«. رحلة في منزل الأمير عبد القادر ومن الأشياء المثيرة في هذا الصدد، أن منزل الأمير عبد القادر الجزائري الواقع في حي الصالحية بدمشق، يتم تجهيزه الآن ليصبح مطعما شهيرا. وأثناء التقاطي لعديد الصور للقصر الذي شهد حياة الأمير في منفاه حتى مات، قال لي أحد المسؤولين عن المكان إن القصر سيظل على صورته الحالية ولن تجرى به أية تغييرات، وطمأنني بأن المشروع »المطعم« يخدم القصر أكثر، والذي ظل مغلقا لفترة طويلة، في حين أن تاريخ الأمير يستحق من يقف عنده. ويذكر أن قصر الأمير عبد القادر كان من أشهر بيوت دمشق، حيث كان حلقة علم كبيرة مارس فيها الأمير عبد القادر دعوته، وداخل أسواره أخمد الأمير نار الفتنة الطائفية في بلاد الشام، وشهد زيارات لعدد كبير من السياسيين العالميين . دمشق: ع.وليد