كثيرا ما تتنازع الإرادات، وتتصادم المواقف، وتختلف الرؤى بشأن التعامل مع أحداث مفصلية تعيشها البلاد، لاسيما على مستوى الطبقة السياسية التي ينظر إليها على أنها مرآة المجتمع، وصوته الذي بإمكانه ولوج مختلف الأبواب التي يعجز عنها المواطن البسيط، ويفوض عنه من ينوبه في ذلك. والملفت للنظر أن البعض ممن يمثلون الطبقة السياسية في البلاد، بل الطبقة السياسية في مجملها تتخذ من النموذج الغربي في الديمقراطية معلما ومحكا في اللحظة ذاتها، لكن الكثير من فعالياتها لا يستحضرون الفارقين الزماني والثقافي بين اللحظة الغربية الحالية، ونظيرتها المحلية، التي تشترك معها في الاسم دون المسمى، الذي يختزل بدوره ميراثا ''ممارساتيا'' بشقيه التنظيري والتطبيقي، قطع فيه الآخر شوطا لا بأس يه، في حين لازلنا نحن في بداية الطريق، فضلا عن اختلاف السياقات التاريخية والجغرافية التي تصنع وعيا متميزا لكل كيان. وهنا يكمن خطأ البعض ممن يريدون من الجزائر وشبيهاتها التنزيل الحرفي للديمقراطية في منتهاها الغربي الحالي بعد فرانسيس فوكوياما، وصمويل هنتنغتون، ناسين أو متناسين البون الشاسع بين الإنسان والمجتمع العربي زمن ما بعد الموحدين كما يقول ثلة من مفكري الحضارة، وبين الإنسان والمجتمع الغربي زمن ما بعد الحداثة. فالمجتمع العربي عموما والجزائري جزء منه، حديث عهد بالاستقلال، -بالقياس إلى أعمار الدول- يخضع لجملة من المتغيرات التي يصنعها أقوياء هذا العالم، واللعب على تناقضاتها من أجل صون المصالح الوطنية يتطلب جهدا مضاعفا وقناعة شعبية تعبر عنها الطبقة السياسية للمجتمع، التي يجب عليها هي أيضا فقه شروط اللحظة من خلال المعطيين الزماني والمكاني، وهو ما يحتم عليها النزول عن مطالب التنزيل الحرفي للديمقراطية الغربية، ولنا المثال الواضح البين لجل من يمثل هذا التيار في الطبقة السياسية الجزائرية التي تتخذ من مقومات المجتمع هدفا للتغيير والتكسير، فضلا عن تنزيل ممارسات الإنسان الغربي (والفرق شاسع بين الممارسات والمبادئ) من خلال ديمقراطيته على المحيط القريب منها، فتجد رئيس الحزب الذي لم يغادر تشكيلته السياسية منذ تأسيسها بعد الانفتاح الديمقراطي الذي عرفته البلاد مباشرة بعد دستور فبراير .1989 وفي المقابل هناك من يجتهد في الاستفادة من منجزات البشرية في السياسة وتسيير الشأن العام بإشراك القاعدة الشعبية في صناعة القرار، واتخاذه، مع مراعاة جملة شروط موضوعية تميز المجتمع العربي عن نظيره الغربي، وتحاول مقاربة تطبيق المبادئ الديمقراطية وفقا لمحددات مجتمع التحول، بعيدا عن آليات المجتمع الغربي الذي قطع أشواطا عمرها قرون عديدة في الارتقاء بهذا النموذج منتج العقل البشري في التسيير. وعليه فالحديث اليوم عن الاستحقاقات الانتخابية عموما، والرئاسية بالخصوص، واتخاذ بعض التشكيلات السياسية لمواقف غير مدروسة تحت يافطة المقاطعة التي أثبتت أكثر من مرة أنها دون جدوى، تؤكد مرة أخرى الحس البراغماتي لدى البعض الآخر برهانه على خيار المشاركة. وصحيح أن الحديث عن الفوز المطلق لتشكيل على آخر أو مرشح على آخر، تحكمه شروط موضوعية أخرى، وتحركه غايات أخر، من قبيل قياس المساحة المحتلة من قبيل هذا أو ذاك على الخريطة المجتمعية، ومقارنتها بمواعيد انتخابية سابقة، فضلا عن التأسيس بها لتحولات أخرى قد تطبع حركية الطبقة السياسية في الجزائر مستقبلا، ولم لا إنشاء خريطة سياسية جديدة، وفقا لمعطيات الراهن الذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن خريطة الأوضاع الإقليمية والدولية في حالة إعادة ترتيب، بعد فشل الفوضى الخلاقة، ونشر الديمقراطية الغربية بالسيف الأمريكي، والانتصار المعنوي والسياسي الكبيرين للمقاومة في لبنان وفلسطين، واقتراب إيران من بوابة عالم الكبار -بتحفظ طبعا-، مما يعزز مرة أخرى أنه يمكننا اختصار الطريق، لا إلغاؤها، ويمكننا تقليص المسافة لا القفز عليها، ويمكننا التقليل من المراحل لا حرقها، وتلك هي ديمقراطية المواقف.