أجد نفسي مضطرا لاستئناف الحديث عن حركية المال التي كان الأستاذ هيكل قد تناولها ورأيت فيها هو محاولة لفهم أثر ذلك على الساحة المصرية وتداعياته التي انعكست على التعامل بين مصر والآخرين، وهو ما حدث أيضا في أقطار عربية أخرى، معظمها لا يجرؤ على التعرض لسلبياته، خصوصا البشرية منها، كما يحدث في مصر. والواقع أنه من الصعب على من عاش مع ذلك الشعب الطيب الكريم في الخمسينيات أن يفهم ما حدث في السبعينيات والثمانينيات وما بعدها إذا لم يتوقف عند دور المال، وهو ما يؤكد الدور المخرب لما سمي بمعاهدة السلام، التي كانت قاطرة شؤم جاءت معها بأحمال من الجراثيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وضعت الشعب بين المطرقة والسندان، أي أن الأثر السلبي لتلك المعاهدة غير المتكافئة لم يكن الجانب العسكري السياسي وحده وإنما أيضا الجانب المالي الأخلاقي، لكن المثقفين المصريين يواجهونه بكل نزاهة وموضوعية، تماما كما حدث مع الأستاذ أحمد زكي أبو المجد في حديثه الأسبوع الماضي لهايدي عبد الوهاب في القدس العربي (السبت 20 فبراير ) نقلا عن صباح الخير ومتحدثا عن نتائج حركة المال المشار إليها في مصر على المواطن، الذي أصبح، كما قال بشجاعة لا تعرف في بلدان كثيرة : ((كسولا وغادراً نتيجة التغيرات التي تعرض لها الشعب المصري خلال الأعوام الماضية، وسقطت لديه قيمة الواجب، وانصرف كثير من الأفراد إلى تحقيق مصالحهم الذاتية بغض النظر عن التزامهم نحو المجتمع بالإضافة إلى غياب الإتقان وهبوط مستوى الأداء وانهيار كثير من القيم الحافظة، وهي القيم التي تشد الناس إلى بعضها وتحمي مؤسسات المجتمع كالأسرة والمدرسة وقيم التكافل والود المتبادل داخل الأسرة)). وأتذكر أنني حضرت في السبعينيات لقاء بين الرئيس بو مدين وصحفي مصري كانت له في الجزائر حظوة، وأعتذرُ عن إغفال اسمه لأنه اليوم في رحاب الله، وراح الصحفي يروي للرئيس ما أصاب المجتمع من تخريب لبنيانه واهتزاز في قيمه وضياع لتقاليده، نتيجة لأموال النفط وتصرفات بعض من يملكونه، خصوصا في المجال الأخلاقي، وكان لبعض ما رواه أثر رهيب على الرئيس، الذي كان بالغ الحساسية عندما يتعلق الأمر بمعاناة الشعوب، وخصوصا الشعب المصري الذي عاش في أحضانه سنوات، وبدا ذلك على وجهه وهو يستمع للتفاصيل ويردد: أعوذ بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد كان واضحا أن عملية مقصودة تجري لتدمير توازن المجتمع وللقضاء أساسا على الطبقة الوسطى، وهي قلعة العمل الوطني في أي بلد كان. فصعود شرائح من الطبقات الدنيا بشكل سريع إلى مستويات الثراء، وأحيانا الثراء الفاحش، وخصوصا منها الشرائح التي عاشت في بعض مجتمعات الوفرة النفطية حيث عوملت غالبا بنوع من الإذلال والدونية، لا فرق في ذلك بين إطار متميز وعامل متخصص أو مجرد 'خدّام حزام"، كلها عادت وقد تولد لديها أحجام متفاوتة من المشاعر الفوقية التي يوفرها مال اكتسب بقدر كبير من المعاناة الجسدية والنفسية، وأصبحت هذه الشرائح ذيلا لقاطرة من الأغنياء الجدد الذين كونوا ثرواتهم من تسهيلات مختلفة النوعية متعددة المجالات قدمت لبعض الوافدين من بلاد النفط، وكثير من هؤلاء كانوا يحملون إرادة تصفية خلفيات قديمة، ولحجم من رجال المال أتت بهم قافلة العمولات على صفقات من كل نوع، وهؤلاء جميعا أصبحوا يُمثلون الشريحة المترفة، بدرجات متباينة، والقرءان أشار إلى الترف وأهله في ثماني مواقع كلها كانت قدحا، ومن بينها ما جاء في سورة الإسراء،: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16) صدق الله العظيم. وبالإضافة إلى ما أشار له الدكتور أبو المجد وما ينطبق على بلدان كثيرة فإن الجميع في البلدان غير النفطية أساسا، مترفين كانوا أو معدمين، وخصوصا في عدد من البلدان الآسيوية غير العربية، تزايدت كراهيتهم الكامنة لكل ما هو عربي، حيث رأوه أساس الفساد ومنبعه، واستثمر هذا كله في خلق مشاعر وطنية جديدة مهمتها الالتفاف حول السلطة الحاكمة، حيث اختلط مفهوم الدولة بمنطوق النظام، وضاع الفرق بين الولاء للوطن والتهليل للحكومة. وأصبح العربي لدى كثيرين إما مخلوقا جاهلا سكيرا متعاليا، أو مجنون جنس شبقا فعلا أو افتعالا، أو حقودا يتميز من الغيظ تجاه كل الآخرين ممن سبقوا بلاده في الفعل الحضاري. وحدث في مصر بشكل واسع المدى ما حدث في الجزائر بعد عقود، وأشير له بقضية الخليفة، لكنه هناك أخذ صفة دينية، وإذا ببعض الأقطاب من المؤسسات الدينية التقليدية، كما يروي هيكل، يتركون أنفسهم لما سُمّي بشركات توظيف الأموال الإسلامية، تستغلهم لأغراضها عن طريق إقناع المؤمنين بأن استثمار الأموال فيها حلال، بينما هو في البنوك أحرم الحرام، وكانت النتيجة أن نشأت ثروات جديدة ألهبت مطامع كثيرة، ونتج عن هذا خلل اجتماعي ونفسي تجاوز كل التصورات، وبدت المؤسسات التي تلبس عباءة الإسلام آنذاك منحازة إلى صف الأغنياء على حساب الفقراء، وبدأت مرحلة برزت فيها طبقة طفيلية جديدة، تحددت ملامحها شيئا فشيئا وتميزت بابتعادها عن اهتمامات الجماهير ومعاناتها اليومية، وأنشئت لها مدارس خاصة جديدة لتستوعب الأعداد المتزايدة من الأطفال الذين سيوجهون فيما بعد إلى معاهد التكوين الأجنبية لإعداد الجيل الذي سيحكم البلاد في المستقبل، وستكون عناصر هذه الطبقة، التي لا تختلف كثيرا عن طبقة أغنياء الحرب القديمة، أبرز الملتفين حول الرئيس المصري، وأقوى المدافعين عن سياسته، والعمود الفقري لسياسته المالية، وستكون بعض عناصرها أهم قواعد التعامل المستقبلي مع العدو الإسرائيلي، حيث ستحاول أن تقيم له داخل أسوار الوطن العربي الاقتصادية والاجتماعية بل والسياسية والثقافية نسخة أو نسخا جديدة لحصان طروادة، لاختراق قلاع الدفاع عن قيم الشعب، وانتزاع مواقع مؤثرة تمكن من الحصول على مكاسب جديدة، عبر تخريب الذمم وتدمير الروابط الاجتماعية الأخلاقية. ويقول هيكل بأن: تأثير الأموال العربية على مصر كان محدودا في البداية، وذهبت معظم الأموال إلى مشروعات محددة، كإعادة بناء مدن القناة المدمرة (..) لكن طوفان الأموال سرعان ما بدأ يتدفق ليكسر البنية القائمة للمجتمع (..) وظهرت جماعات جديدة يصعب وصفها، بالدقة العلمية، أنها طبقات (..) وتم *تفصيل* قوانين لفتح الطريق أمامها (..) ونشأت سوق سوداء للاتجار بالعملة (..) وتدهور سعر النقد المصري إلى درجة أنه أصبح للدولار ثلاثة أسعار (..) وذهب جزء من الأموال المتدفقة إلى الإسكان الفاخر وإلى السلع الاستهلاكية والترفيه، واتخذت هذه الخطة اسم سياسة الانفتاح (..) وظهر في هذا الوقت تعبير يقول بأن السوق المصرية تعرض ثلاث أنواع من السلع: سلع إنتاجية وسلع استهلاكية وسلع استفزازية (خريف الغضب ص 213) وقال عضو في مجلس الشعب عام 1981 بأن عدد أصحاب الملايين في مصر وصل إلى 17 ألف (..) في بلد تعيش فيه خمسة ملايين أسرة على متوسط دخل قدره 30 دولار شهريا ( عن تقديرات للبنك الدولي) وتواصلت عملية فك القطاع العام (..) وزادت معدلات التضخم (..و) نزح أكثر من مليون فلاح إلى العالم العربي يبحثون عن أمل، منهم نصف مليون ذهب إلى العراق ( وكل هذا وغيره كثير يُفسّر أحداث 18 يناير 1977) لكن الشعب المصري لم يسكت، وعندما لم يتمكن من الاحتشاد والتظاهر كما حدث في يناير عبّر عن نفسه بالأغاني والأناشيد، وقال أحمد فؤاد نجم العظيم، صوت مصر الحقيقي: هما مين و إحنا مين .. ؟ هما الأمرا والسلاطين .. هما المال والحُكم معاهم .. و إحنا الفقرا المحرومين. حزر فزر شغّل مخك. شوف مين فينا بيحكم مين ؟!! هما الفيلا و العربية. والنساوين المتنقية. حيوانات استهلاكية. شغلتهم حشو المصارين. حزر فزر شغل مخك. شوف مين فينا بياكل مين ..؟؟!!! إحنا قرنفل على ياسمين. إحنا الحرب : حطبها ونارها. وإحنا الجيش اللي يحررها. وإحنا الشهدا بكل مدارها. منكسرين أو منتصرين . حزر فزر شغل مخك . شوف مين فينا بيقتل مين ..؟؟!!! هما بيلبسوا أخر موضة. وإحنا بنسكن سبعة في أوضة. هما بياكلوا حمام وفراخ . و إحنا الفول دوخنا وداخ. هما بيمشوا بطيارات . وإحنا نموت بالأوتوبيسات. يومها كان السادات قد كشف عن خطواته نحو جنون العظمة، ويروي هيكل (خريف الغضب ص 189) بأن الرئيس قال لكارتر بأن : ((الناس ينظرون إليّ على أنني خليفة لجمال عبد الناصر وذلك ليس صحيحا، فأنا لا أحكم مصر طبقا لأسلوبه ولكنني أحكمها طبقا لأسلوب رمسيس الثاني)) ويواصل هيكل قائلا بأن السادات راح، وبطريقة واعية ومنظمة، يتخذ لنفسه صورة فرعونية، باعتماد وضع البروفيل (..) وإذا كان هناك شبه بين السادات وبين أي حاكم سابق فقد كان بينه وبين الخديوي إسماعيل.