تحيل فترة الشتاء والبرد دائما دائرة الاهتمام إلى ما اتخذ من احتياطات قبلية لتحضيرها وبالأخص إلى إعادة التواصل مع عادات وتقاليد "العولة" وتخزين المواد الغذائية والطاقوية تحسبا لأيام الشدة في ما يشبه النظام الاقتصادي الذي يحفظ استمرارية المعيشة وبقاء الجزائريين على مر العصور وتحديا لعوامل الطبيعة. ويتذكر السيد محمد الصالح زماموش (كفيف في الأربعين من العمر) من سكان ميلة ذلك العام "الصعب" الذي استمر فيه تساقط الثلج شهرا كاملا خلال فترة الثورة التحريرية بميلة عندما كان صبيا. العولة منقذنا انقطعنا حينها عن الحياة وكان منقذنا الوحيد هو تلك العولة- المخبأة في أيام الصحو وفي مقدمتها القمح و"مزاود" النعمة أي الكسكسي والشخشوخة وكذا مواد التدفئة مثل الخشب والتبن. كنا نأكل الروينة وبوغلية والكسكسي والشرشم وغيرها من المأكولات التقليدية البسيطة التي كانت تمنح الدفء والحرارة لأجساد تعاني البرد. ذلك النظام المنزلي التليد هو الذي مكننا من تجاوز تلك المحنة التي لم يكن فيها بالإمكان الخروج من المنزل نظرا لكثافة الثلوج" . ومن تقاليد الجهة في نفس الفترة - كما يقول محمد الصالح - تخزين 12 قنطارا من القمح في العام أي بما يعادل قنطارا واحدا لكل شهر- ولم يكن يتصور آنذاك وجود منزل ريفي عندنا بدون قمح مخبأ فضلا عن تجفيف الخضر والفواكه على غرار الطماطم والتين وتخزين دهون ككريات "مداوية" ولحوم في شكل "قديد" مملح وكذا تخزين مواد الطاقة والتدفئة والطهي مثل "الوقيد" وهو "مخلفات جافة لروث الأبقار والماشية". وحسب أحد الأساتذة فإن "العولة" كلمة عربية صحيحة تأتي من - عال - يعول وتعني - قوت العيال - وهي كانت تؤدي مهمة النظام الاقتصادي المنزلي الذي يعمل على التكيف مع متطلبات وتحديات الحياة في المجتمع الجزائري عملا بقاعدة " تخبئة القرش الأبيض لليوم الأسود". حجار البلى يتلقطو نهار العافية ولا تتردد السيدة نوارة (ربة بيت 40 سنة) في الإشادة ب"حكمة" الأجداد والأسلاف الذين بالرغم معاناتهم من ضيق في العيش وجهل وظلم الاستعمار كانوا يطبقون بإتقان المثل القائل "رصاصات الحرب تحضر في فترات السلم" أو كما يقول المثل الشعبي "حجار البلاء يتلقطو نهار العافية". و تضيف بأن حسن التدبير جعل الأسلاف يحسنون التدبير والاقتصاد اذ"لا شيء يضيع في نظام العولة" ومن ذلك أن "علف الزيتون" مثلا أو ما يسمى "أزنين"عند ناس تسدان الجبلية كان يستعمل كوقود تخبز به كسرة لذيذة. وإلى جانب مزايا الكسكسي الميلي الذي كان يهيؤ في شكل أصناف رقيقة ومتوسطة وخشينه كان للزيتون حضور دائم إذ يتم "تصبيره" بكميات كبيرة في أزيار طيينية تحافظ على سلامة المنتوج وتحفظه للاستهلاك. العولة .. ذكاء واحتياط وفي نظر المسرحي -شرف الدين زغدود فإن العولة نتاج حضارة طويلة إذ تعد تعبيرا عن "ذكاء في الاحتياط لأيام الشدة" وهي تذكرنا كما يقول "بزمن الجدات اللواتي كن يحتفلن بفتل بربوشة +كسكسي+ العام" أثناء الصيف في طقوس تشبه "العيد" وتجسد معاني وروح التضامن والتعاضد والتويزة التي طبعت دائما علاقات الناس بعضهم ببعض. الحياة.. شتاء.. في أداس بوخلاد ويتحدث الشاعر الطاهر بوالصبع عن موضوع"العولة والاقتصاد المنزلي والشتاء" في أقصى وأوعر منطقة في الشمال الميلي وهي تلك الواقعة في إقليم بلدية تسالة المطاعي الحالية وخاصة بمشتى آداس بوخلاد -المعلقة بين الأرض والسماء في جغرافية وعرة. هناك يصعب كثيرا التنقل في الحالات العادية فما بالك في أيام العواصف الثلجية يقول الطاهر - خاصة حين يصل سمك الثلوج أمتارا في بعض الأحيان. "كنت ازور جدي وجدتي هناك في ثمانينيات القرن الماضي وكان الناس هناك يحتاطون جيدا لقدوم فصل الشتاء حين كانت الثلوج تمكث أكثر من شهر محاصرة بيوت السكان الهشة حتى أنهم ما كانوا يدخلونها إلا مستعملين لبعض الأدوات من أجل فتح الأبواب". براميل "أقابوش" والتين المجفف في أعالي تسالة لمطاعي نظام العولة هناك يقول الطاهر بوالصبع كان يسمح ب"حفظ" القمح والشعير والدقيق الذي يقومون برحيه في احد مطاحن الماء كما يخبئون تلك المؤونة في ما يشبه البرميل الطيني الكبير المسمى محليا - أقابوش -.ومن المواد التي يجرى حفظها دائما - الفلفل الأكحل و الطماطم التي تصبر و تجفف في أوانها كما يجفف التين الذي يأكل بزيت الزيتون ويمد الجسم بطاقة حرارية كبيرة مقاومة للبرد. " ولا يجب أيضا نسيان التزود بالحطب والديس اليابس والبترول لإشعال موقد النار الكبير الذي يظل مشتعلا طوال النهار وجزء من الليل وحوله تلتئم العائلة الكبيرة وتنتعش حكايا الجدات الساحرة وألغازهن وأمثالهن الشعبية التي تختصر إبداعا شعبيا في غاية الرونق والخيال"، كما يقول الشاعر. وكان للحيوانات أيضا نصيبها من الاهتمام بحيث توفر لها النخالة)وأوراق البلوط وثمارها اذ تعد مصدر السكان الوحيد في الظروف المناخية الصعبة من لحوم وحليب و زبده. كان أجدادنا - يضيف الشاعر المقعد الموهوب - ومع قساوة الطبيعة والتضاريس وغياب أدنى الإمكانيات آنذاك يكيفون حياتهم مع كل الظروف "ولم نكن نسمع آنذاك بأن أحدا قد مات جراء البرد أو الجوع" كما يقول. وكانت بساتين الخضر في مناطق أخرى مثل التلاغمة ووادي العثمانية توضع بعد انتهاء أصحابها من جني محاصيلهم في متناول الناس من أجل جمع ما بقي منها في جوف الأرض من البطاطا والجزر واللفت وغيرها حسب شهادات بعض قاطني تلك المناطق وذلك ما يمكن الكثيرين من تخزين احتياطي في"المزاود"(نوع من البرميل الخزفي لتخزين المؤونة) وذلك تحسبا لأيام الحاجة إليها. نانا الزهرة... ومخزنها وكانت"نانا الزهرة"رحمها الله كما تقول (ليندة.ب) حفيدتها التي تشتغل مدرسة لغة إنجليزية بميلة أحرص الناس على مزاودها حيث "تخبئ مؤونة العام في بيت خاص بها +بيت المزاود+ وتحتفظ دائما بمفاتيحها ملتصقة بحزامها كما تتصرف بمؤونتها وفقا للحاجة وفي تدبير محكم". وتستيقظ كل يوم في وقت صلاة الفجر وما إن تفرغ منها حتى تذهب إلى مخزنها أين ينتظرها -قمحها البليوني- لتعجن منه الكسرة ولا تلبث أن تحضر موقدها من حطب أخذ نصيبه الكافي من الشمس وهو جاهز ليشتعل من دون دخان . وبكلتا يديها التي رسم عليهما الزمن آثاره تضع كسرتها في " الطاجين" وتحركها من حين لآخر كما كانت تحرك الحطب لضمان استمرار اشتعاله. وحين تنتهي تأخذ الكسرة وتضعها في صينية نحاسية مخصصة لفطور أفراد الأسرة مصحوبة بحليب توفره البقرة الحنون الرابضة غير بعيد من المنزل تقول ليندة في حنين حساس يأخذها لأيام الطفولة السعيدة بمنطقة القرارم. تابشمت ومهارة تخزين الزبدة وقد بلغت مهارات تخزين المواد الغذائية عند الجزائريين حدا كبيرا من الذكاء وحسن التدبير كما يقول محمد ز.(50 سنة) حيث يشير الى أن بعض مناطق الأوراس الأشم احترفت تخزين الزبدة وهي من المواد صعبة التخزين لحساسيتها. ويتم ذلك - يضيف محمد-عبر ملء إناء فخاري كبير بالزبدة وغلقه بواسطة مغلاق طيني محكم يسمى "ثابشمت" ويتم دفن هذا الإناء في الأرض مع وضع شاهد على مكان وضعه يكون غالبا حجرا من الصوان ثقيل حتى لا يتزحزح بفعل العوامل الطبيعية كالرياح والأمطار. ويتم العودة لهذا المخزون في حال الرغبة في الاستهلاك حيث تبقى الزبدة محافظة على مذاقها كما كانت عليه حين إنتاجها أول مرة. ويمكن أن تدوم مدة تخزين الزبدة أو الدهان كما يطلق عليه في المنطقة بهذه الطريقة 5 سنوات كاملة. وتقول نورة من فوغالة بولاية بسكرة بأن أبرز المواد المخزنة في الصحراء هي التمر في شكل معروف بإسم "الغرس" ويخزن الغرس بعد تنظيفه وتنقيته من النواة قبل أن يجفف تحت أشعة الشمس وبعدما ييبس كلية تعاد عملية التنظيف من جديد ويتم حشوه في ضغطه في أواني نظيفة تحسبا للاستعمال في أشكال متعددة من الحلويات التقليدية. وفي الماضي كان الناس يحفظون الغرس في"الزير" أو في جلد نقي ومدبوغ يسمى "البطانة" ويتم تسويقها كذلك . وكان التمر يعرض في الماضي في الأسواق في شكل "ربعي" بمكيال حديدي وكثيرا ما يتمون السكان في الأسواق الشعبية بالتمر بكميات كبيرة تستهلك باتزان ليس في الصحراء فقط وإنما في مناطق مختلفة من التراب الوطني. عادات في تراجع ... واسترجاعها ضرورة اقتصادية وتتأسف السيدة ابتسام بجاوي من قسنطينة على كون كل هذا التراث الجميل المبني على الاحتياط والمهارة في التدبير في طريقه إلى الاندثار والضياع "نتيجة تعثر وتراجع نقل الموروث الحضاري من الأم إلى البنت" مشيرة إلى تقاليد الإنسان منذ وجوده على الأرض في مجال تخزين المواد وتقسيط استهلاكها على أيام السنة.وبرأي هذه السيدة العاملة بالتلفزيون الجزائري فإن استعادة واسترجاع العمل بالعولة مع تكييفه الأكيد وفقا للظروف الحالية "لا يجب أن يعد ترفا أو مجرد حنين رومانسي لماضي فات بقدر ما يعتبر ضرورة اقتصادية لمواجهة الحاجيات الاقتصادية الراهنة وخصوصا في أوقات الغلاء" .وتتساءل المتحدثة عما يمنع العائلة الجزائرية الآن في ظل وجود الثلاجة والوسائل الحديثة للطهي والتخزين من الاقتصاد من خلال "تخزين صحي لمواد غذائية مثل الشحمة والطماطم والخضر في وقت الوفرة من أجل استهلاكها في وقت الندرة والغلاء" مستطردة أن الكثير من العائلات تواصل انتهاج هذه العادات الحميدة وهي مستفيدة جدا من مزاياها .