لا يمكن عزل ما تشهده سوريا من تزايد في حجم العنف الممارس، وسفك لأنهار الدماء الجارية، عما يشهده العصر الراهن برمته من تزايد ملحوظ و"مدهش" في أعمال العنف والقتل والتنكيل والسحل من قبل الجماعات والمجتمعات والدول، على اختلاف أعراقها وأديانها وانتماءاتها. تلك الممارسات التي أحالت "الدم البشري" إلى سلعة رخيصة ووسيلة براغماتية للوصول إلى المآرب والغايات، تجد في العالم الإسلامي، بالذات، مرتعاً خصباً بحكم تلون المشهد اليومي واصطباغه بلون الدم الأحمر، بما يسوّغ لدى المتابع لتلك الأحداث والممارسات، وبالذات المتابع الغربي، أن يصم "المسلمين" و"العرب" بجميع الأوصاف الرائجة، فالمسلم أو العربي (دموي، عنيف، متشدد، يستسهل سفك الدم وإباحته، ولا يتوانى عن تصفية محاوره أو مخالفه نصرة لقضاياه). الممارسات المفضية إلى استعار القتل وانبعاث الشهوة إلى سفك الدم، ليست ممارسات خاصة بالعرب والمسلمين وحدهم، فالعالم شاهد على استفحال مظاهر "الهرج" والقتل في جميع أنحائه، بما يعنيه ذلك من أزمة أخلاقية شاملة تعاني الإنسانية من آثارها يومياً، ولا يختص "بامتياز" صناعتها شعب أو جماعة أو دولة دون أخرى. ولكننا بالمقابل لا يمكننا أن نغض الطرف عن التساؤل حول أسباب شمول تلك الظاهرة العالمية للمسلمين، ومدى مشروعية انخراطهم فيها، وقبولهم لما يتردد عنهم في وسائل الإعلام العالمية من تصدرهم للركب وقيادتهم له. فهل صحيح حقاً ما يشاع عن العرب والمسلمين من تلك الأوصاف؟! وهل ثمة ما يسوّغ لهم إقدامهم على "ممارسة العنف"، كما يقال، واستسهال سفك الدم في نصوصهم الشرعية وتراثهم الفقهي؟! المشهد اليومي المتجدد في العالم الإسلامي والعربي يتنقل ما بين عنف تمارسه الشعوب المقهورة تجاه بعض أنظمة الحكم اللا شرعي في بلدانها، إلى مشاهد العنف الطائفي والمذهبي المتبادل (سنة وشيعة)، وصولاً إلى "التنفيس" عن مخزون الاحتقان والغضب جراء القهر والظلم والعسف ومحاولات الإذلال، الداخلي منها والخارجي، من خلال ممارسات عنفية تجاه الأفراد والمؤسسات، دون أن نغفل ما يخرج علينا بشكل دوري تقريباً من إصدار فتاوى "التكفير" و"إهدار الدم" وإباحته من قبل بعض العلماء. يمكن أن نلحظ أن الاستعمال القرآني لمفردة "الدم" يدور حول عدد من المعاني منها: تحريم أكل "الدم" أو تناوله بكافة أشكاله، وبهذا الصدد، يتعامل القرآن الكريم مع مصطلح "الدم" بوصفه "رجساً" محرماً ومستقذراً طبعاً وشرعاً، يمنع تناوله أو أكله أو التعاطي به، مهما كانت الغاية أو الأسلوب المتبع، وهو ما انعكس تالياً في الفقه الإسلامي باعتبار "الدم" إحدى الأشياء التي يحرم التعامل والتعاطي بها. ففي سورة البقرة ينص القرآن على تحريم "الدم"، وهي الصيغة التي تتكرر فيما بعد في عدد من الآيات مع اختلاف طفيف، ﴿إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم﴾ ]البقرة: 173[. ولعل الصيغة الواردة في النص على تحريم تناول الدم (أي أكله) والمتكررة في عدد من السور الأخرى (المائدة: 3، الأنعام: 145، النحل: 115)، واقترانها بما هو مستقذر ومنفور منه طبعاً، ومحرم بشكل قاطع شرعاً، ليؤكد على ما تقدم من رغبة القرآن في حسم قضية التعاطي مع "الدم" الحيواني بكافة أشكاله، وعدم جواز اللجوء إلى ذلك إلا في حال الضرورة التي تبيح شرعاً المحظورات، كما هو معروف. وفي ضوء ما تقدم، تبرز إشكالية مفارقة فهومات المسلمين وممارساتهم إزاء التعامل مع "الدم" الإنساني بالذات، في ظل ما يظهرونه من قدرة على التساهل في سفكه وإراقته وعدم التواني عن ذلك لأدنى سبب أو مبرر. ففي الوقت الذي يأتلف فيه كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على التشديد على تحريم المساس بهذا المفهوم "الدم" سواء كان حيوانياً، لاستقذاره وضرره فطرياً وصحياً، أم إنسانياً بالتشديد على حرمة سفك "الدم"، فإن الفقه الإسلامي، وبالذات فيما يتعلق بأبواب الكفارات التي من المفترض أن تكون جابرة لخلل طارئ أثناء ممارسة عبادة ما، غالباً ما تكتسي عبارات الفقهاء فيه بالتعبير عن مفهوم "الكفارة" بمصطلح "الدم"، فإذا ما أخل المسلم مثلاً بأحد واجبات الحج أو أركانه، فإن العبارة التي لا يتردد الفقيه أو الكتاب الفقهي عن إطلاقها للتعبير عن وجوب جبر ذلك الخلل أو النقص هو "أن على ذلك المسلم دم"؟!. فيتم التعبير بذلك عن مفهوم شرعي فيه من الرحمة والتسامح إزاء تقصير المكلف أو جهله في القيام بالعبادة، بمصطلح يحوي شحنة كبيرة من التنفير والتحريم المبالغ فيه والمقصود لذاته؟!. لكن السؤال الذي يظل حائراً يكمن في تعزز تلك القابلية لسفك "الدم" وامتهانه، على الرغم مما يشهده المسلمون اليوم من "صحوة"، وهو ما يضعنا مباشرة أمام أهمية ترشيد تلك الصحوة من خلال القيام بمراجعة مفاهيمنا ومصطلحاتنا وممارساتنا اليومية، وسبر مدى انطباقها، أو على الأقل، مقاربتها للمفهوم الشرعي المستمد من المصادر الأصلية للشريعة الإسلامية. دون أن ننكر في هذا السياق أثر ممارسات "الآخر" وتصرفاته، والتي استحالت في الآونة الأخيرة غزواً واحتلالاً واستباحة لحرية الأرض والدم والعرض، وأخيراً المقدسات، ورغبة "ثلة" منتفعة من توتير الأجواء وتعكيرها بين الحضارتين الإسلامية والغربية، في قطع كافة جسور الحوار والتواصل على المستوى الشعبي والحضاري مع "الآخر".