كان الأنبياء جميعًا، عليهم الصّلاة والسّلام، على خُلق عظيم، فقد أتاهم الله عزّ وجلّ من حميد الخصال ومعاني الأخلاق ما لم يُؤت أحدًا غيرهم مثله. وهذه الخصال الفريدة والفاضلة هي الّتي يتشرّف بها النّاس، وتسعى الأمم والشعوب الحيّة للتحلّي بها، في كلّ زمان ومكان، وجميع الأنبياء كانوا شهداء ودعاة ومبشّرين ومنذرين، ولكن غلب على كلّ نبيّ وصف من هذه الأوصاف والصفات الحميدة الفاضلة. أمّا مَن كان جامعًا لهذه الصفات كلّها، واتّصف بها جميعًا، فكان مبشّرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فهو سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال تعالى: {إنّا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا}، البقرة .119 وكانت حياة سيّدنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، ملأى بهذه النُّعوت، وسيرته صلّى الله عليه وسلّم تفيض بهذه الخصال، فهو النّبيّ الرّسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم، لأنه بُعِث ليختم الله به النّبيّين والمرسلين، فأُعطي الرسالة الأخيرة ليبلّغها إلى البشر كافة، فجاء بالشّريعة الكاملة الّتي لا يحتاج البشر معها إلى غيرها، وحظيت تعاليمه وأفعاله بالخلود، واختصّت بالبقاء والدوام إلى يوم القيامة، فكانت نفس محمّد صلّى الله عليه وسلّم جامعة، شاملة للأخلاق العالية: ''إنّما بُعِثْتُ لأتَمِّم مكارم الأخلاق''. إنّ السيرة المحمدية يحق لصاحبها أن يتّخذ النّاس من حياته مثلاً أعلى وأنموذجًا يُحتذى به. قال تعالى: {لقَد كان لكُم في رسول الله أُسْوَة حسنَةٌ}، الأحزاب .21 وأنّ سيرته صلّى الله عليه وسلّم وأفعاله وممارساته الّتي تمتد إلى أدق تفاصيل حياته مدوّنة ومعروفة بشكل لا نظير له لتكون نِبراسًا للمسلمين، يهتدون به في عباداتهم وأفعالهم ومعيشتهم وكلّ تفاصيل حياتهم، وتنظيم مستلزمات شؤونهم الدينية والدنيوية في كلّ زمان ومكان. لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستشير صحابته في مكة، ثمّ لمّا قدم المدينة، استمر في مشورته لهم، وبعد أحد، نزل قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، آل عمران .159 حيث استمر صلّى الله عليه وسلّم في مشورته لأصحابه. قال أبو هريرة رضي الله عنه: ''ما رأيتُ أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه''. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يراعي الشروط النّفسية للمسلمين، محاولاً التّخفيف من معاناتهم وآلامهم، باعثًا فيهم روح الإكبار والإباء، واعدًا إياهم بالنصر والثواب، بل كان يستأثر بالمصاعب الجمّة دونهم. ففي هذه غزوة الأحزاب مثلا، نجد أنّه، صلّى الله عليه وسلّم، كان يعاني من ألم الجوع كغيره بل أشدّ، حيث وصل به الأمر إلى أن يربط حجرًا على بطنه الشّريف من شدّة الجوع. وكان لهذا التبسُّط والمرَح من قِبَل سيّد الخلق، عليه الصّلاة والسّلام، أثره في التّخفيف عن الصّحابة ممّا يعانونه، نتيجة للظروف الصعبة الّتي يعيشونها، كما كان له أثره في بعث الهمّة والنّشاط بإنجاز العمل الّذي كلّفوا بإتمامه. وهكذا، كان سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المثال النموذج الّذي فطر على تعاليم القرآن الكريم ''كان خلقه القرآن''، فقد أرسله الله عزّ وجلّ بشرًا رسولاً، ليكون بأعماله وأفعاله وحركاته كلّها إمامًا ومرشدًا للبشر كافة وفي أحوالهم كافة.