هذا شهر رمضان قد أظلّ المسلمين، وحّد بينهم في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وحّد بينهم في شعورهم وسرورهم، وحّد بينهم في استعادة ذكرياتهم المجيدة، ووحّد بينهم في ليلهم ونهارهم، وفي وقت طعامهم وشرابهم. لقد جعل رمضان فقراء المسلمين وأغنياءهم وحكامهم ومحكوميهم ورجالهم ونساءهم في ذلك كلّه سواء، كأنّي بهم يتبادلون التّهنئات بهذا الشّهر المبارك، مشرقة وجوههم باسمة ثغورهم منشرحة صدورهم طيّبة نفوسهم، وكأنّي بهم يذكرون بهذا الشّهر المبارك (عيد القرآن) عيد الكتاب العربي المبين الّذي كان نعمة الله على المسلمين، بل نعمة الله على البشر أجمعين، كأنّي بهم جميعاً وقد قاموا من نومهم في غير وقت قيامهم، ممسكين عن طعامهم وشرابهم وسائر شهواتهم، إيماناً بالله واحتساباً لثوابه وابتغاء مرضاته، لا فرق بين صعلوكهم وأميرهم، ولا امتياز لغنيّهم على فقيرهم، كلّهم أمام الله عباد مستوون، كأنّي بهم وقد نشطت نواديهم وحفلت مجتمعاتهم وانطلقت ألسنة محاضريهم وخطبائهم، يذكّرون بالخير ويحضّون على البرّ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتواصون بالحق ويتواصون بالصبر. خص الإسلام شهر رمضان بنوع من الصّلاة تسمّى عند المسلمين بصلاة التّراويح، فعلها رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، مع أصحابه في رمضان ودرجوا عليها من بعده، واستمر المسلمون عليها يُحيون بها ليالي رمضان ويؤدّونها جماعة في مساجدهم، بها تستنير القلوب وبها تضاء المساجد وبها يتحقّق إحياء رمضان وقيامه، وقد جاء فيها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ''أنّ الله فرض صيام رمضان وسننت قيامه، فمَن صامه وقيامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه''. والمراد من الاحتساب أن يقصد به وجه الله دون رياء ولا سمعة، والاحتساب هو روح التّقوى الّذي يتقبّل به الطاعات {إنّما يتقبّل الله من المتّقين}. والصيام عبادة قديمة جاءت بها الأديان السّابقة، فكانت ركناً هاماً من أركان كلّ دين، فإنّ جيل النصارى تذكر الصوم وتمدحه وتعتبره عبادة كبرى. وقد صام عيسى، عليه السّلام، والحواريون رضي الله عنهم. والتوراة تفرض الصوم بعض الأيّام، ومنها فيما يروى يوم عاشوراء وقد صام موسى عليه السّلام أربعون يوماً {يأيُّها الّذين آمنوا كُتِب عليكم الصّيام كما كُتِب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون}. هذا هو رمضان وهذا هو إحياؤه، وجدير بالمسلمين أن تنفتح له قلوبهم وتصغى إليه أفئدتهم، وأن يسدّوا به منافذ الإيحاء الشّيطاني الّذي تملّكهم وألهاهم عن إيحاء الخير، فرّق كلمتهم وأضعف سلطانهم، وأفسد أخلاقهم وأمات الغيرة في نفوسهم. جدير بهم، وقد استظلوا بظلّ رمضان، أن يفقهوه وأن يعملوا بمقتضاه، عسى أن ترجع إليهم الكلمة ويعود إليهم السلطان ويستقيم لهم الحال. * إمام مسجد النصر الذرعان بالطارف