شهدت نهاية العقد الأول من هذا القرن مجموعة من الظواهر يجري الجدل بين النخب العالمة والسياسية في منابر الرأي حول طبيعتها وأسبابها في شتى أنحاء العالم، وتُقدّم الفرضيات والسيناريوهات عمّا ستسفر عنه في المديين المتوسط والبعيد. فهل هي تحولات اجتماعية ثقافية؟ أم هي بحث عن بدائل أخرى عن أوضاع انتهت صلاحياتها ولم يعد الخطاب القديم قادرا على الدفاع عن ضعف حصيلتها؟ أم هي نتيجة سباق بين الاختلالات في تلك الحصيلة وما تحقق من انجازات؟ 1 موجة الأعماق من الأطلسي إلى الأورال توصف عملية التحول في المنطقة العربية أحيانا بالحركات الاحتجاجية التي تقترب من مدلول الثورة أو الربيع العربي أو الغضب السلمي، وأحيانا بالانتفاضة (uprising)، وأحيانا أخرى بالنهوض أو الاستفاقة (Awakening)، وتأخذ ظواهر التحول والاعتراض في الغرب الأوروبي، وبدرجة أقل في الولاياتالمتحدة، أسماء وحركية مشابهة، ولكن تحت واجهة الديموقراطية الميكانيكية، أي تداول نفس الأحزاب والمنظمات والزعامات الراهنة أو المرجعية من داخل النظام باختلافات فرعية في تطبيقاته. في شمال العالم، وجنوب أوروبا بوجه خاص، شهدت إسبانيا أطول وأضخم مظاهرات احتجاجية على ليبيرالية متشدّدة يقودها حزب اشتراكي(!)، وفي اليونان تعلن الدولة بيع بلادها في المزاد العلني، وفي البرتغال يحتضر الاقتصاد في غرفة الإنعاش منذ عدة سنوات، وفي الولاياتالمتحدة وصلت المديونية سقفا مهولا يقدر سنة 2011 ب14290مليار دولار، وبلغت مديونية كل من إسبانيا وإيطاليا وفرنسا مجتمعة 6000 مليار دولار، وتطلّ عليها من خارج النادي القديم لأهل الحل والعقد في شؤون العالم نماذج أخرى واعدة مثل الصين والبرازيل، وأخرى في جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى روسياالجديدة، وكلها في حالة تحول وبحث عن فلسفة أخرى للعلاقة بين الدولة والمجتمع ومع ماضيها ومع مستقبلها، كيف سيكون في نهاية قرن وبداية آخر. قدمت نخب الشمال عدة نظريات وفلسفات من منطلق وصايتها على الإنسانية جمعاء، كان لها صدى لدى نخب الجنوب من أطروحات النهايات عند فوكوياما (F.Fukuyama) عن التاريخ والإيديولوجية، إلى إعادة صياغة الفرضيات في صورة حتميات لا مناص منها عند ب.لويس (B.Lewis) ضد غير اليهود والمسيحين وهدفها تشويه الإسلام والتحريض ضد أتباعه، وعند هيتنغتون عن انشطار العالم إلى معسكرين متقابلين بينهما صراع حياة أو موت، إلى ز. زبيغيو بريجنسكي (Z.Brezinski) عن أسباب القوة التكنولوجية ودورها في التفوق والتحكم والسيطرة وتحقيق انتصارات بلا حروب. تزعزعت ثقة الشعوب شمالا وجنوبا في النظام الليبيرالي الجديد، كما تمّ تطبيقه، وكما يصفه بنيامين باربه (B.Barber) بالسوق العالمي بلا حواجز ولا حدود (World Mac)، على نمط ماك دونالد وبيغ ماك (Mac Bic)، وإيهام شعوب البلدان النامية المهمشة بأن طوفان العولمة والشمولية لا يؤثر على القيم والثقافات المحلية. وقد وجد منظرو الليبرالية وقادتها في شمال العالم حصان طروادة في الديموقراطية وحقوق الإنسان، كما هي في بلدانهم، لفرض مزيد من الوصاية والإخضاع بما تملكه من وسائل التضييق والعقاب، بعد كل ما اقترفوه من مذابح وحشية تواصلت عشرات السنين لاحتلال وإذلال شعوب الجنوب لعدة قرون. أصيب التكتل الغربي بالغرور الإيديولوجي بعد تقهقر المنظومة الاشتراكية، وإفلاس أنظمتها السياسية وعجزها عن مواجهة خصمها المتسلل من وراء الستار الحديدي، والتراجع التدريجي لحركة التحرر الوطني والعالمي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. بينما اندفع التكتل المنتصر في التبشير بالاقتصاد النقدي والسوق المفتوحة، وفرضها عن طريق المؤسسات الاقتصادية والنقدية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، التي أنشأها بعد الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى منظمته العالمية للتجارة (OMC)، وتمكن من تقديم نموذجه التكنولوجي المتفوق باسم مجتمع الاتصال والشبكة الدولية الواسعة الانتشار (WWW)، لمحو الحدود وتذويب الخصوصيات الثقافية للشعوب، والتبشير بما بعد الدولة- الأمة باسم المجتمع الشامل Global society)) ، وبواسطة ما يسميه بريجنسكي الثورة التكنوإلكترونية وما توفره من تأثير بقوتها الناعمة (power Soft) وديموقراطية السوق في تنافسية غير متكافئة. 2 الديمقراطية: هدف ومطيّة حوّل هذا النمط من الديموقراطية الفرد في المجتمعات الغربية إلى لا إنسان، فهو مجرد قيمة مادية (Homo-economucus)، وأضعف روابطه الطبيعية بالتشكيلات المجتمعية التي توفر الانتماء الوجداني والحماية من التقلبات غير المتوقعة، وبالتالي فقد قيمته الإنسانية وتم تسليعه (Marchandisé) ونمذجته في ثقافة معولمة من ''هوليود'' و''ميكي'' ونسخه الأخرى بين ضفتي الأطلسي، وملاهي ديزني لاند الذي يُنتظر مفعوله بعد أن تسلق جدار الصين العظيم وما وراء الأورال. ليس من شأن هذه السطور الحكم على ما يجري على الضفة الأخرى من المتوسط وما وراء الأطلسي، ولا التنبؤ بمسار موجة الاحتجاج المتزايد ومضاعفاتها على الإنسان والمجتمع وكيان الدولة الأمة، والاحتجاجات المتواصلة في معبد المال Street Wall)) الذي أعلن عليه الشباب والأقل شبابا الحرب، وأطلقوا عليه اسم جدار الحرب war street) )، على أباطرة المال الذين قسموا المجتمع إلى عبيد جدد وقلة محظوظة Happy few)). إن الذي يثير الانتباه هو قدرتها على إقناع الآخر بخطابها المزدوج عن المساواة والديموقراطية وحقوق الإنسان واحترام الاختلاف والتنوع الثقافي، وهو ما فعلت وتفعل عكسه طيلة القرنين الأخيرين على الأقل، فالجمهورية الفرنسية بمبادئها الثلاثة المعلنة هي التي وضعت وطبقت قانون الأنديجينا في الجزائر، ودمرت قسما كبيرا من تراثها الثقافي وأنكرت وجودها في الجغرافيا والتاريخ. وهذا العالم الذي يصف نفسه بالحرّ هو الذي احتضن الديكتاتوريات في القارات الثلاث، وأطاح بكثير من الأنظمة الديموقراطية التي لا تخدم مصالحه الأنانية، وهي في الحقيقة مبدؤه الثابت. إن المفاهيم والمصطلحات التي وضعتها الأنساق الفكرية والسياسية عن التثاقف والتعددية الثقافية (Multiculturalisme) إنما تخفي، في الحقيقة، عكسها في الممارسة، وهو ما تتعرض له الجاليات المهاجرة في كل بلدان الشمال، بما فيها روسيا الفيدرالية، فلم تتخلص تلك الأنظمة من إيديولوجيتها القديمة، فقد غيرت اسمها إلى النظام الجديد (NWO)، ولم تتغير صورة الآخر البربري والمتوحش الذي ينبغي ترويضه بالقوّة القاهرة، أو القضاء عليه خدمة للإنسانية المتحضرة، في تعبير نيتشه، ولو تطلب الأمر بالنسبة للمسلمين تفعيل مخزون الصراع الذي يعود إلى عدة قرون، مثل الحروب الصليبية لتجنيد الرأي العام في الداخل وشيطنة الآخر والتأليب ضدّه. إن المسؤولية تقع إلى حد كبير على المسلمين الذين عجزوا عن صنع حداثتهم، واكتفى بعضهم بذمّ حداثة الآخر، ولجأ البعض إلى الاختفاء في أوراق ماض لن يعود كما كان أبدا، وبقي البعض الآخر مترددا على طريقة نعم.. ولكن، ولم يجد آخرون حلا سوى الانتقال إلى الآخر. وليس فيما سبق أي تصنيف يمثل حكم قيمة على تيارات فكرية أو إيديولوجية تتقارب وتتباعد في عالم إسلامي أحسن وصفه ابن خلدون وتنبأ بما ينتظره من إجهاضات قسرية وحمل كاذب، وإرهاصات تحمل من الوعود بقدر ما فيها من الاخفاقات. بينما لم تتغير النظم الاجتماعية والسياسية في مجملها في شمال العالم، منذ عصر ما بعد التصنيع، أي قبل ما يزيد على قرنين باستثناء المجموعة الاشتراكية، بفاصلة تزيد قليلا على سبعة عقود ((1919/1917، شهد خلالها جنوب العالم العديد من التحولات والانهيارات، كانت بلدان الشمال في العديد من الحالات وراءها، أو بتدخل مباشر منها. 3 اعرف عدوك.. إنّه التخلف لهذه اليد الظاهرة والخفية وكلاء احتياطيون من النخب الفكرية والسياسية المحلية، ضمنت بعد التحرير حضور قوة الحماية والاحتلال في عهد ما بعد الكولونيالية، فكثير من المواقف داخل مؤسسات الحكم ولدى المعارضة تأخذ بعين الاعتبار ردّ فعل القوة السابقة، كما أن المصادر الأساسية للإعلام هي قنواتها العابرة للقارات، ولا يكاد يخرج الجامعيون في كثير من أعمالهم عن الأطر المفاهيمية والأنساق الفلسفية المعدة في الغرب الأوروبي الأمريكي، والموجهة لتطبيقها بأمانة في بلدانهم ومجتمعاتهم، كما يرى ساسة الغرب ونخبه الفكرية أن القيادات المثقفة والسياسية في بلدان الجنوب مدينة لهم بكل شيء. الحلّ لا يكمن في التخلص من الفكر الأوروبي، بل بتحريره من ظلاميته الامبريالية وتوظيفه ليستفيد الجميع من إيجابياته، على غرار ما قام به مناضلو الحرّية عبر العالم. نجد في الدراسات التي ظهرت في العقود الثلاثة الأخيرة تفسيرات كثيرة لهذه السلطة الكولونيالية الراسخة من الداخل، نذكر منها مدارس دراسات ما بعد الكولونيالية (studies Post colonial) في بريطانيا، والدراسات البديلة (Studies Subaltern) في الهند، والاتجاهات الجديدة في الانثربولوجيا الثقافية في الولاياتالمتحدة. ويهتم أغلبها بإعادة النظر في الإرث الكولونيالي، ونقد النماذج والنظريات والمفاهيم التي سادت طيلة القرن الماضي وتداولتها النخب العالمة والسياسية باعتبارها مسلمات بديهية، مثل عالمية النموذج الغربي في التنمية، وصلاحية ما أنتجه وتبناه من مبادئ ومناهج لكل شعوب العالم، لأنها الأرقى والأفضل. لا نضمر للغرب أي كراهية فلا وجود لمجتمع كله أشرار أو كله ملائكة أطهار، ولا تنسى الإنسانية كلها أنها تتمتع بفتوحات الغرب في العلوم والفنون والآداب، وأنه ليس السبب الوحيد لتخلفنا وما نعانيه من فتن واختلالات، إن ما ينبغي إدانته هو الاستعلاء والنفاق والسجل الدموي لإمبراطورياته، الذي أدانه مفكرون من أعلى طراز في الغرب نفسه. إن المقاربة النقدية لتراث الغرب تتطلب التمييز بين منجزاته الحضارية وسياساته اللاأخلاقية، وهو ما أوجزه ألان غريش (A.Gresh) في الفقرة التالية: ''إن الحلّ لا يكمن في التخلص من الفكر الأوروبي، بل بتحريره من ظلاميته الامبريالية، وتوظيفه ليستفيد الجميع من ايجابياته، على غرار ما قام به مناضلو الحرّية عبر العالم''. هذا العالم الذي يصف نفسه بالحرّ هو الذي احتضن الديكتاتوريات في القارات الثلاث، وأطاح بكثير من الأنظمة الديموقراطية التي لا تخدم مصالحة الأنانية. 4 خلاصة إن ما شغلنا في هذه المقاربة، وغيرها، هو واقع المنطقة العربية والإسلامية، والجزائر في قلب جناحها الغربي. لقد أضاع الكثير من بلدانها ما يزيد على نصف قرن بعد التحرير في المحاولة والخطأ والبحث عن نموذجها في الحكم والتنمية والعلاقة بين المجتمع ونخبه، ولم تؤسس لمعرفة علمية وإبداعية تعيد صياغة تراث وخصوصيات شعوبها، وتستوعب التراكم الحضاري القديم والمعاصر الذي ساهمت فيه كل الإنسانية من أقدم الأزمنة إلى اليوم، متى ينتقل أهل الحل والعقد وأولو الأمر في شعوبهم من موضوع أو ساحة لفعل الآخر إلى فاعل في ساحته أولا، وحاضر بتأثير وموقف خارج ساحته الجغرافية ومجاله الحضاري والثقافي؟ من المرجّح ألا ينسى جيلنا، والعديد من الأجيال اللاحقة، أن الجزائر دولة ومجتمعا هما وليدا كفاح مرير ضد الكولونيالية، وأن عدوها سابقا والآن هو التخلف بأسبابه المادية والمعنوية ومضاعفاته على العقليات. إن العدو بين ظهرانينا قبل أن يكون خارج الديار، فالتفكير في الإصلاح كما يقول إدغارموران E.morin)) يتطلب البداية بإصلاح التفكير، أي التربية على المواطنية قبل العصبيات القبلية، والانتماء إلى أفكار تغير الحاضر وتصنع مستقبلا لجيل من الخلف يثق في دولته، وينتمي أولا لثقافة مجتمعه بتنوعاته ولغته العربية الجامعة، ولا يغفل عما يحدث في عصره وفي العالم، الذي أصبح منذ أمد بعيد فينا وليس من حولنا. *باحث في العلوم الاجتماعية الجزائر: أكتوبر 2011