1 التحول الحاسم: في تاريخ الأمم والشّعوب تحوّلات كبرى تتسارع فيها حركة التاريخ إلى الأمام، ويستمرّ تأثيرها لأجيال متعاقبة، وتكون فاصلة بين عهدين وتصبح بسبب نتائجها الحاسمة من الموجهات الأساسية لنظام الدولة والمجتمع. لا تحدث تلك التحوّلات بالصدفة وللتو، فالصّدفة كما يقول بروديل ((F.Braudel ليس لها ذاكرة (Le hasard n'a pas de mémoire)، إنها محصّلة الوعي الجماعي، واستخلاص دروس التجربة التاريخية والإرتقاء بها إلى صورة تنظيم يحدد أهدافا، ويبتكر منهجية لإنجازها عن طريق قيادة تتميز بالإرادة والمصداقيّة الشعبيّة. قد يتبنّى بعض السّاسة والمفكرين، من الأجيال اللاّحقة تلك الأهداف والمنهجية، ويرون فيها معايير لتقييم الحاضر وإنجاز رهانات المستقبل، وقد يبتعدون عنها، بسبب دوافع وغايات أخرى قد تصل إلى حدّ القطيعة والبحث عن بداية أخرى، انطلاقا من نقطة الصفر الوهمية. مهما كان الرأي والموقف، فإنّه ليس بالإمكان تجاهل التحوّل الحاسم، فهو يكتسب بمرور السّنين صفة المرجعية، ويرسم حدود ما يعنيه الانتماء والوطنيّة، وهذا شأن الثورة الجزائرية. ليست المقولة السابقة مجرّد وجهة نظر، أو فرضية في حاجة إلى مرافعة حماسية، بل هي حقيقة تاريخية يثبتها ما كان قبلها من دمار وهوان أثناء محنة الاحتلال الإستيطاني للجزائر وسجَلُّ اعترافات السفاحين من قادته العسكريين والسياسيين، ومنظري الإيديولوجية الكولونيالية من الفلاسفة والأدباء والعلماء والمسؤولين النافذين في مؤسسات الدولة والمجتمع، الذين حرّضوا على الإبادة وبرّروا استئصال العرق »الأسفل« وتدمير هوية الجزائر الحضارية وإلحاقها ظلما وعدوانا ب »المتروبول«، لا نستفز مشاعر المعاصرين لنا وراء البحر ولا نتعجّل المقارنات، إذا قلنا بأنّ النازية والفاشية ليستا أكثر من تطبيق للإيديولوجية الكولونيالية في الحالة الجزائرية، مع فارق واحد وهو أن مجازر الهولوكست الفرنسي استمرّت قرنا وثلثا، وليس عقدا ونيفا هو عمر الحكم الهتلري. يؤكّد صحّة وصف الثورة الجزائرية بالتحوّل الحاسم، الواقع الجديد الذي نشأ عنها، فمهما كان موقع الأشخاص بالأمس واليوم، وما سيكون في الغد على الخريطة السياسية، لجزائر ما بعد الإستقلال، في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع، أو على أطرافها، أو في موقع النقد والإعتراض على ما حدث من إجراءات وسياسات، قد يرى البعض أنها ناجمة عن فساد التسيير وقصور التقدير خلال العقود الأربعة الماضية، فإنّ هناك ما يقترب من الإجماع على أنّ جزائر ما بعد التحرير هي جزائرنا نحن، بما فيها من نجاحات وأخطاء، من اقتراب أو ابتعاد عن عقد الشرف والحرية المتضمن في بيان الأول من نوفمبر 1954، الذي يبقى إلى أمد طويل سفر التكوين لأجيال من الجزائريين. نقول ما يقترب من الإجماع، لأن لا أحد يأسف على هزيمة الكولونيالية الفرنسية، سوى قلة من ذباب الخونة ضحايا الضعف والنفس الأمّارة بالسوء، وبعضهم ممّن أغواهم شيطان الخيانة يجهرون اليوم بالتوبة من الخطيئة الكبرى، بعد أن حاق بهم جزاء سنمّار، وقد وصفهم أحد أسياد الأمس (جويلية 2006) بالفضلات البشرية، إن خطيئة تلك الأقلية لا يدفع ثمنها الأبناء والأحفاد، فقد جاء في الذكر الحكيم: {لا تزر وازرة وِزْر أخرى} و{كلّ نفس بما كسبت رهينة}. بعد 178 سنة من العدوان لم تشف فرنسا الكولونيالية من ذاكرتها النوستالجية وما يتصارع فيها من عقد تكشف عن وجهين متناقضين لفرنسا: يمثل أولهما فرنسا إعلان حقوق الإنسان ومبادئ الحرية والأخوة والمساواة، وهي تقتصر في معظم الأحيان على الخطاب والأدبيات النظرية، ويلغي ثانيهما تلك المبادئ ويمارس نقيضها في الواقع، إذا تعلّق الأمر بالشعوب الأخرى، فتصل إلى تمجيد الجريمة والافتخار بالإبادة العرقية وتجريم الضحيّة التي قاومت الظلم والعدوان. تشكّلت تلك العُقَد في الذهنيّة الفرنسيّة بعد فشل فرنسا في منافسة بريطانيا في الصراع من أجل الهيمنة على البلاد المستضعفة، فبينما وصلت مساحة الأراضي التي استولت عليها فرنسا إلى 13 مليون كلم2 سنة 1919، بلغت المناطق التي حكمتها بريطانيا إلى ما يزيد عن 70 مليون كلم2 وفي القارات الخمس.(Grandmaison 2005) هناك مدخل آخر للنظر إلى الظاهرة الكولونيالية تأسست في الهند منذ ثمانينيات القرن الماضي، نادى بالعودة إلى تاريخ الهند العميقة، هند الفقراء والفلاحين الذين قاوموا الكولونيالية البريطانية وأخفت نضالاتهم طبقات النبلاء والأسياد، بل نسبتها إلى عدد قليل من العائلات. أسّست تلك التيارات أبحاثها في تاريخ شبه القارة أثناء حكم التاج البريطاني، على نظرية أنطونيو غرامشي (A.Gramsci) لتفسير حركيّة التاريخ من أسفل، وإخراج نضالات العاديين من الناس من قاعة الانتظار على بوابة التاريخ، على حد التعبير الشائع في مدرسة التاريخ البديل الهندية (Subaltern Studies) التي تعيد الإعتبار للإنسان الأسفل (Subman). ومن النتائج التي توصّلت إليها أبحاث هذه المدرسة: أن بريطانيا أخذت من الهند كلّ شيء، ولم تعطها سوى حلفاء محلّيين يضمنون مصالحها على المدى البعيد. أنّ الهند الحديثة لا تدين بشيء لنظريات الحداثة الغربية. تفنيد الإدّعاء بعالميّة الحداثة الغربية وإلزاميّة الاقتداء بها في كلّ أنحاء المعمورة، إنّها في رأي ديبش شاكرفورتي ((D.chakravorty ومساعديه من الباحثين في ورشات البحث History workshops ذات طابع محلّي ونتاج وضعيات لا تتكرّر طبق الأصل أبدا، ومن الأخطاء السّائدة بين النّخب في البلدان المستقلّة حديثا تصوير تاريخهم على أنّه يتراوح بين التخلّف واستدراك ما فات من التقدّم بالقياس دائما على مسار الغرب، وقلّما تعرّضت مفاهيم مثل: ديمقراطية مواطنة دولة أمّة إلى معالجات فكريّة وتطبيقيّة خارج أطرها التقليديّة التي قرّر الغرب وحده، أن خارجها لا تُوجد مفاهيم وتجارب مغايرة، وذلك منذ حوالي مائتي عام، (ورقة للكاتب قدمت في ندوة التربية والمواطنة 27 أكتوبر 2010). وينبغي أن نؤكّد هنا، بأن الكولونيالية كلها شرّ لا خير فيها ولا غنيمة تُرْتجى منها، لا فرق بين إيديولوجية الشر البريطانية أو الفرنسية فالأهداف واحدة وهي الاستعباد والنهب والإلحاق، سواء سُمي بالحكم المباشر الاستيطاني أم الحكم الغير المباشر ((indirect rule تحت التاج البريطاني الذي حكم شعوب شبه القارة الهندية التي يزيد عددها في العشرينيات من القرن الماضي عن 360 مليون نسمة بخمسة آلاف من الجنود والموظفين الدائمين، يذكر المؤرخ الهندي الآنف الذكر أن الحاكم البريطاني الجديد للهند في بداية القرن الماضي سأل أحد مساعديه: كيف تقول باللغة الهندية مساء الخير؟ فأجابه: لا حاجة لك سيدي بذلك فلا أحد يستحقها! وفي نفس الوقت مارست بريطانيا الإبادة العرقية على سكان شمال القارة الأمريكية من الهنود الحمر والأبورجين في أستراليا ونيوزلندة باسم الحضارة والتمدين، ولم يبق من تراث شعوب ذات حضارات عريقة سوى عينات للفرجة في المتاحف. فشلت الكولونيالية الفرنسية في المحافظة على وجودها في العالم الجديد، وانسحبت كسيرة من لويزيانا والكيبك ولا يخطر على بال طبقتها السياسية أن تلعب بالنار بالقرب من العم سام وجبروته الرادع، لقد أثار هتاف الجنرال العجوز ديغول بحياة الكيبك اللامبالاة وشيئا من السخرية، فقد كان ذلك النداء في نظر الكثيرين أقرب إلى عزاء النفس والبكاء على الأطلال. إذا تعلّق الأمر بالجزائر فإن التاريخ السياسي لفرنسا يتحوّل إلى توظيف للسياسة في التاريخ، والنبش في الماضي والتباهي بأسوإ ما فيه، بعناوين مستعارة تكذبها الحقيقة التاريخية فالاحتلال الاستيطاني للجزائر من 1830 إلى 1962 كان بكل المعاني أضعاف التسونامي، لم يبق ولم يذر شيئا، سعى لتدمير مقومات شعب مسالم كان في حالة دفاع عن النفس لأكثر من ثلاثة قرون، واستأصل في أقل من عقدين 1830، 1850 النخب المؤطرة للمجتمع وتكالب على عقيدته واحتقر ثقافته وسعى لتفكيك هويته وإنكار انتمائه وعمقه الحضاري العربي الإسلامي، واستخدم خصوصيات شعبنا لزرع التمايز العرقي والكراهية والفتنة. حسب البروفيسور أ. بورو ((A.Porot مؤسس مدرسة الطب النفسي في جامعة فرنسا في الجزائر في دراسته الشهيرة عن الإنفعالية الإجرامية عند الأهالي الجزائريين أنهم يتوزعون على 20 عرقا يتبادلون الكراهية والبعضاء De l'impulsivité criminelle chez l'indigene Algérien, Alger 1926 واستخدم للاستهواء والتغرير المسيحية السمحاء وسخّر الإخوة والأخوات البيض على طريقة أطعم كلبك يتبعك، ومن يرجع لأعمال وأقوال لافيجري ودوفوكو، سيجد أن ما يسمى القاعدة والأصولية المتطرفة ليست سوى طبعة صغيرة لإرهاب الدولة بالدين وإرهاب الدين المُؤيّد بقوة دولة الاحتلال! 2 الدورة الثلاثية للإبادة والرُّعب دار برنامج عدوان فرنسا الحربي الاستيطاني على الجزائر (وهذا اسمه وليس حرب الجزائر) على ثلاثة مراحل متعاقبة وأحيانا متزامنة: 1 الأرض المحروقة 2 التقتيل الإنتقامي 3 التقتيل الوقائي، نعرض دورة القتل والترويع بإيجاز على النحو التالي: أ / سياسة الأرض المحروقة والتقتيل الجماعي، وشنّ عمليات الرّازيا لتجويع وتشتيت من بقي على قيد الحياة من الأطفال والنساء للإخضاع، وفرض الاحتلال والتمهيد لاستيطان الكولون، وأغلبهم من الصعاليك والمساجين والمشاغبين الذين وصفهم »أليكسي دو توكفيل« بفائض السكان الذي ينبغي أن ينشئ مجاله الحيوي وراء البحر، واعتبر أنّ الجزائر هي الحل لآفة الفقر. هذا كلام مؤلف كتاب »الديمقراطية في أمريكا« توكفيل المعجب بنموذج اليانكي ونجاحه في عمليات الإبادة من أجل الاستيطان. كما دافع الشاعر لامرتين الذي يتغنى برومانسية أطفال المدارس في الجمعية الوطنية الفرنسية عن شرعية كل الوسائل التي تمكن للاحتلال والاستيطان وتحقق عظمة فرنسا الإمبراطورية يقول لامرتين: »الإحتلال هو وسيلتنا لخلق الثروة والمحافظة على بنائنا السياسي، أيها السادة مهما كانت الوسائل فإن الاستيلاء على مقاطعات وراء البحر في الإمارة العثمانية وإفريقيا ضرورة لفرنسا ولعدد سكانها المتزايد«. هذا هو الوجه الثاني للشاعر الرومنسي الذي كثيرا ما ينساه أدباؤنا في المشرق والمغرب، وهذا شأن العديد من قادة الفكر والسياسة في فرنسا الذين يستخدمون حقوق الإنسان ومبادئ الحرية والعدالة والمساواة مجرد ديباجة، أو يقصرونها على الفضاء الأروبي وينتهكونها عن عمد وسبق إصرار في ممارستهم الاستبدادية طيلة القرون الثلاثة الأخيرة، وقد خصصنا لتلك المواقف والآراء المشينة دراستين مرفوقتين بالنصوص الأصلية ل 39 من أساطين الكولونيالية المدنيين والعسكريين من بين مئات منهم نُشِرتا سنة 1998 وسنة 2002. ب/ تقتيل انتقامي تحت اسم التهدئة، بعد كل انتفاضة عارمة بمعدّل انتفاضة كل عشر سنوات من 1847 إلى نهاية الحرب الإمبريالية الأولى، يضاف إلى تلك الإنتفاضات مقاومات متفرقة لأشخاص وجماعات يطلبون الثأر لشرفهم الفردي والجماعي بسبب ما لحقهم من ظلم وإذلال، يسميهم المحتلون بعصاة الشرف (Bandits d'honeur)، وهي ظاهرة لم تحظ بما تستحقه من عناية المختصين في العلوم الاجتماعية، وعلماء التاريخ بوجه خاص ولم يعرها المسرح والسينما ما تستحقه من إهتمام. ج/ التقتيل الوقائي لمنع الانتفاضات، وبهدف الردع وإرهاب السكان، ومحاصرة المؤطرين من النخب المثقفة والسياسية، قبل اغتيالهم أو تشريدهم ونفيهم إلى أقاصي الأرض ليكونوا عبرة، وهذا تطبيق مُبكّر لما يسمّى اليوم الضربات الاستباقية في مصطلح الأحادية القطبية. أوصلت هذه الدورة الثلاثية الإجرامية الجزائريين إلى حالة قصوى من البؤس والمسغبة من الصعب وصف حصيلتها الكارثية في سطور كما أن إحصاء الضحايا الأبرياء بالملايين، وليس بمئات الآلاف، لا يعني التسجيل العددي فحسب، وكأنهم قطعان من الأغنام، فهؤلاء النساء والرجال هم أولا بشر، وثانيا هم من الآباء والأجداد الذين قُتلوا ظلما وعدوانا، وفي عقر دارهم لم يعبروا البحر إلى الضفة الأخرى شاهرين السلاح. نعرف أن الظاهرة الكولونيالية وإيديولوجياتها العنصرية والمعادية للحضارة وتعاليم الأديان السماوية الثلاثة قديمة العهد، وتجد أساطيرها في قسم كبير من المذاهب والتيارات الأروبية وفي امتدادها الأمريكي جنوبا وشمالا، فهي تعود إلى النظام الهيليني ثلاثة قرون قبل الميلاد التي صنفت البشرية كلها إلى إغريقي يطلق عليه وصف إنسان، وغير إغريقي هو البربار، أي المتوحش في مستوى الحيوان غير الأليف، إما ترويضه أي إخضاعه عن طريق الاسترقاق، أو قتله، وقد وجدت الكولونيالية تطبيقاتها الوحشية في الإمبراطورية الرومانية التي عولمت الرقّ وأنشأت ما يشبه المنظمة العالمية للتجارة OMC للتسلية بالحيوانات البشريّة humains Zoos وأسست الجد الأول للسيرك ووولت ديزني الحالي. إن إصرار لوبيات في الحكم وفي المجتمع المدني الفرنسي على تمجيد أسوإ ما في تاريخ فرنسا الكولونيالية، بدافع ذكريات نوستالجية عن الفردوس المفقود وتحويل مباحث التاريخ إلى مراسيم وقوانين ملزمة وإقامة النصب التذكارية للظلم والعدوان، ليس أكثر من مغالطات شجع عليها في رأينا غموض العلاقة مع فرنسا طيلة العقود الثلاثة التي أعقبت الاستقلال، ونجاح الاستقطاب لشريحة من النخب المفكرة والسياسية الجزائرية التي تتحدث عن غنيمة حرب وتنسى أن جزائر ما قبل التحرير كانت أكبر عنائم فرنسا وراء البحر وأن سجلّ الاحتلال الاستيطاني يقطر دما وأن ذاكرة الأجيال الثلاثة التي أعقبت ثورة 1954 ما زالت تنزف. 3 هل نجحت الكولونيالية في تخصيب بذورها المسمومة بأثر رجعي في تربة المقاومة والثورة الجزائرية؟ الجواب بديهي إنهم الجزائريون الذين ساهموا في تحرير فرنسا من الغزو مرتين، وقُتِل عشرات الآلاف منهم بلا قضية تستحق التضحية في صراع ليسوا طرفا فيه، وشاركوا في إعادة بناء فرنسا بأبخس الأثمان وفي أقسى الظروف ونشروا لغتها على نفقتهم بعد التحرير. وقد حرمهم الاحتلال الاستيطاني من المواطنة في بلدهم ونشر الجهل والأميّة باللّغتين بين أغلبيتهم الساحقة، حيث اعتبرت جاليتهم العنصرية الطاغية تعليم الفرنسية خطرا عليها. كيف نفسّر تعلّق شرائح من مجتمعنا بفرنسا جنسيّة ولسانا بديلا؟ وكيف يدافع البعض من نخبنا وقسم من إعلامنا عن مصالح فرنسا في الجزائر، وليس عن مصالح بلدهم هناك؟ أين الخلل؟ هل هو في الرّعاة أم في الرعيّة؟ أم فيهما معاً؟ كيف تحوّلت لغة فرنسا وأدبياتها الإنسانية من أداة للنضال من الفترة بين الحربين حتى انتصار الثورة؟ كيف تحوّلت اليوم إلى هويّة بديلة وعلامة على الحداثة والتقدّمية في بازار مضحك مبكي لأُناس ساخطين على التخلف المزمن في بلادهم ويعافون تقاليد مجتمعهم الموصوفة بالأركائكية ؟، ماذا تعني ظاهرة اللّجوء الثقافي لبعض الباحثين والأدباء الذين يطلبون الشهرة عن طريق تحقير بلادهم وتسوّل الشّهرة بالمزايدة على شتم الجزائر مجتمعا وتاريخا ودولة وليس نظاما سياسيا، فذلك رأي قد يستحقّ الاحترام ولو كان في الاتّجاه المعاكس للريح الأقوى...؟ ماذا فعل معظم نساء ورجال جيل الثورة والجيل المخضرم للتعريف بمعاناة شعبنا قبل التحرير وجبروت الجنس »الأعلى«، الذي طبق الداروينية الاجتماعية »البقاء للأصلح« أي الأقوى؟، إن كثيرا مما يقال في الملتقيات والموائد المستديرة والمستطيلة والكثير مما يصدر في المقالات والمذكرات إما تبرير، وإما آتهام وإما تشخيص نرجسي بأثر رجعي لا يهمّ الجيل الصاعد والنخبة الشابة في شيء، بل هو أحيانا أدنى مستوى من أحاجي الجدّات. إن شبابنا لا يشارك إلا في النادر في التعرف والتعريف بذاكرة بلاده، وإذا حضر جسديا فإنه في الغالب مجرد ديكور، هل نعجب الآن بعد أن نسينا تجديد الخطاب وإشراك الشباب والجزائر على مسافة زمنية تقل عن خمسين عاما من التحرير أن يفاضل البعض من الفتيات والفتيان بين ماقبل الاستقلال وما بعده؟ كيف يحب شخص وطنه ويعتز بنضالات أجداده إذا تخوصص أفضل ما في ماضيه، أو رأى أن في مستقبله من الإنذارات أكثر مما فيه من الوعود والبشائر؟ نحن لا نزايد بالوطنيّة على أحد، فالوطنيّة أعدل قسمة وزّعت بين النّاس عند الميلاد، هل هناك معيار آخر للوطنيّة غير الموقف والمسلكيّة؟ وما هو هذا المعيار إن لم يكن تنمية المعرفة والثروة والرّفع من مكانة ومناعة البلد الذي ننتمي إليه بين الشعوب والأمم؟ وما سوى ذلك ليس أكثر من تعاريف ومصطلحات بهلوانية تُجرّد السيّاسة من أخلاقياتها الانسانيّة. تبيّن من إحصاء للباحث الفرنسي غي بيرفيل (Guy perville 1984) أن نسبة التمدرس في الجزائر سنة 1880 لم تصل إلى 1.6%وأنّ الحاصلين على رصيد متوسّط من الكلمات والجمل باللغة الفرنسية سنة 1948 لا يزيد عن 8/1من المنخرطين في التعليم الفرنسي المنحصر بدرجة 99.9%في المستوى الإبتدائي. لذلك التهاون والتفريط في معاناتنا المأساوية أسباب أخرى أكثر تعقيدا، يرجعها البعض إلى نصوص اتفاقية إيفيان وحالة الدمار والخراب الذي خلّفه الاحتلال ويراها البعض الآخر من مضاعفات سياسة التعجيز المبنيّة أساسا على ترسيخ التبعية المطلقة للإبقاء على الإلحاق بفرنسا بطريقة أخرى. من الشواهد على ذلك أنه باستثناء بعض التعليقات الصحفية والتصريحات العابرة لبعض المسؤولين في الجزائر، لم يثر تمجيد الجريمة والإبادة التي نشرها قادة عسكريون وسياسيون حتى نهاية التسعينيات، ردود فعل تتناسب مع ما ورد في الاعترافات المنشورة ابتداءا بالسفاح بيجو إلى أوزاريس وبابون الذي حوكم بتهمة آضطهاد اليهود، وليس قتل الجزائريين ورميهم في نهر السّين، حتى تصدّى الرئيس بوتفليقة للرد الواضح والقوي على الاستغفال واستضعاف بلادنا، وانتهاك مقدساتها وكرامة شهدائها، إنّ هذا الموقف العادل والشّجاع وحده، يكفيه ليدخل تاريخ الجزائر من أوسع أبوابه. من مفارقات نظام القوّة والاستبداد العالمي، أن تتجنّد حكومات ومخابرات القوى العظمى وتبحث عن عجوز قارب الثمانين من العمر وهو إيخمان المتّهم بالمشاركة في محرقة اليهود، وتجلبه إلى إسرائيل بعد أكثر من ثلاثة عقود من نهاية الحرب الإمبريالية الثانية، وتنفذ فيه حكم الإعدام وتحرمه من القبر وتحرق جثته وترمي رمادها في البحر تحت تصفيق وتهليل الغرب، ويعاقب أي مفكّر أو سياسي يشكّك أو يقلّل من الهولوكست فالصّهيونية وإسرائيل ظاهرة كولونيالية استيطانية وهي البنت المدلّلة للإمبريالية العالميّة ووكيلتها في منطقة فقد معظم قادتها الإرادة وهم يتسابقون طواعية للسماح لهم بالطواف حول بيت ظاهره أبيض وداخله الشر والإفساد. خلّدت فرنسا الكولونيالية أسماء السفاحين من قادة عسكريين ودعاة الإبادة من مروّجي إيديولوجية طبق الأصل من وليدتها النّازية، وأطلقتها بلا استحياء وفي اعتزاز بالإثم على شوارع ومدن جزائرية وفي أرض يرقد على أديمها ضحايا المذابح الجماعية والمحارق، بلا حساب ولا عقاب، كيف نفسّر الغفلة والاستغفال الذي استمرّ عدّة عقود؟ وما هو تعريف الجريمة ضدّ الإنسانية؟ وماذا تعني العدالة في نظام القوّة والطغيان المسمّى بالنّظام الدولي الجديد؟ إنّه حقّ الأقوى وعدالته المزيّفة التي عرفها الرومان قبل اعتناق المسيحيّة وبعدها باسم حق المنتصر (Vae victs). لقادة فرنسا من كل ألوان الطيف السياسي أن يقرّروا تقديم تاريخ بلادهم السياسي والعسكري والثقافي بما يرضي صورتهم عن بلادهم، وللنوستالجيين والشوفينيين أن يختاروا المساحيق التي تخفي الحقائق وتحرّف الوقائع، ولكن لضحايا الظلم والعدوان أن يرفضوا تبييض الجريمة. كما ترفض الحكومات والمؤسّسات الدّولية تبييض أموال الفساد وتجارة المخدّرات ومسروقات المتاحف والبنوك. فإنّ من حقّنا نحن أن نرفض الأكاذيب التي تُبيّض في كتابات مشبوهة تدعى التعلمن والموضوعيّة، وتساوي بين الجاني والضحيّة وتسعى لاكتساب المصداقية في تصويت ميكانيكي باسم أغلبيّة تطبّق سياسات أقصى اليمين في سباق الانتخابات، وتضحك على الذقون بالتهجّم على أطروحاته. من الإنصاف أن لا نُعمّم الوجه القبيح لفرنسا على كلّ فرنسا، فبعد صدور أكذوبة 23 فبراير 2005، والإعداد لنصب تذكاري للأقدام السوداء ولمجرمي المنظمة السريّة من أمراء الحرب الذين سفكوا دماء الأبرياء، ودمّروا ما استطاعوا من تراثنا المادي والمعنوي في بضعة شهور، وتمردوا على نظامهم بعد فشله في خديعة »سلم الأبطال« وأطلقوا بذلك على أنفسهم رصاصة الرحمة. 4 من الإعتراف بجرائم الكولونيالية إلى التكفير والتعويض بعد كلّ تلك المسرحيّة الهزلية المأساوية، تصدّى بعض السّاسة والمفكّرين الأحرار من الفرنسيين للتنديد بأسطورة مساهمات فرنسا المتعدّدة في المجالات العلميّة والتقنيّة والإداريّة والثقافيّة واللّغويّة، والعرفان بالعمل الإيجابي في الأراضي المحتلّة سابقا مثل الجزائروتونس والمغرب والأراضي التي كانت موضوعة تحت السيادة الفرنسيّة وتلزم بتلقينه في المناهج المدرسية. بعد حوالي شهر واحد من تركيب تلك الأكذوبة وتسويقها مثل البضائع المزوّرة ((Contre façon ردّ عليها قسم من اليسار الفرنسي وعدد كبير من الأساتذة المتخصّصين في التاريخ والعلماء، أحصى منهم الأستاذ كلود ليوزو ما يزيد عن 300 الذين حكموا على ما سمي بالقانون بأنّه ليس تاريخا بل هو ضدّ التاريخ Une loi contre l'histoire, le monde dipl AV.2005. واعتبرته الباحثة ساندرين لومير (S.lemaire) تعميقا للكسر بين الضفتين في مقال نشر في يناير من سنة 2006، بينما كان السيد وزير الخارجية الفرنسي الحالي يحزم حقيبته للتوجه للجزائر لتحريك مشروع الصداقة بين البلدين وهو أحد الراعين المتحمسين لتمجيد التمدين على طريقة جنكيزخان وهولاكو وهتلر. وتحت عنوان حرب بلا شرف صدرت في بداية سنة 2006 دراسة لفلورانس بوجيه (F.Beaugé) قريبه في منهجها ومضامينها من التحقيق المرافعة الذي نشره صديق الثورة الكبير هنري علاق ((H.alleg بعنوان »المسألة«، وأندري ماندوز ((A.mandouze الأب اليسوعي الشجاع المتوفي في شهر أغسطس، الذي تبنّى مع سارتر قضيّة النضال التحرري الجزائري مع قائمة طويلة من الساسة والمفكرين تمثّل الوجه الشريف لفرنسا، وليس الوجه المنافق الذي يُمثّله ألبير كامو بكلماته المطاطية ومواقفه المخزية التي تتناقض تماما مع مذهبه الفلسفي (الوجودية)، القائم على الحريّة والاختيار المتجدّد، فهو ينحاز إلى أمّه يعني فرنسا على حساب الحق والعدالة (Je préfère ma mère à la justice)، وهو الكاتب الذي ينسب خطأ للجزائر، وتخصّص له بتلك الصفة، جلسات مكتبية لدراسة آثاره الأدبية التي تدور أحداثها في الجزائر في غياب تام لأهل البلد، فالجزائريون عند كامو هم فقط المستوطنون من الأقدام السوداء، وما سواهم “ديكور” لا يستحق الذكر.إننا نلاحظ أن القانون المزعوم المشار إليه آنفا يتحدّث أيضا عن الشقيقتين تونس والمغرب اللتين وضعتا تحت »الحماية«، وهي كلمة ملغومة لأن دولة الاحتلال لم تحم أحدا سوى مصالحها وعملائها أثناء خدماتهم الخيانية ومارست على ما سواهم النهب والتسلّط والسخرة. لقد وجدت الثورة الدعم والتأييد من أشقائنا العرب والمسلمين، بوجه عام وتونس والمغرب وليبيا بوجه خاص، فانتصرت بهم وانتصروا بها ولكن لم نسمع من البلدين الشقيقين أصواتا قويّة تردّ على العبث بالتاريخ والإساءة إلى التضحيات البطولية للشعوب المغاربية. إذا كان من حق تلك الأوساط النوستالجية أن تتحايل على الوقائع التاريخيّة وتحاول المضاربة بها في بورصة السياسات المحليّة، فماذا يمنع العلماء المختصين في بلادنا من البحث في تاريخ فرنسا خلال القرنين الماضيين؟ ولعل أهمّ آليات تأييد التبعية وتأجيل التحديث وانتهاج سياسات التنمية القصيرة النظر التي سادت بلداننا في نصف القرن الماضي، فلم يحدث أيّ تحويل حقيقي للتكنولوجيا، فضلا عن المساعدة على توطينها، ومن المعروف أنّ هناك مجالات محرّمة على علمائنا وباحثينا. ومن يقترب منها إمّا يهدّد الأمن والسّلام العالمي، وإمّا يمتصّه المركّب العلمي الصّناعي وما وراءه من أجهزة وسياسات مثل استقطاب الكفاءات كما هو الحال في قانون ساركوزي الخاص بالهجرة وشروط الإقامة في فرنسا. 5 خلاصة فيما يخص الجزائر التي تحتفي اليوم بفجر أول نوفمبر وتستعد لإحياء يوم الإنتصار الأغر في يوبيله الذهبي، بعد أقل من سنتين أي سنة 2012، فإن شعبها لا يحقد على فرنسيي اليوم، ولكنّه لا ينسى الدمار والهوان الذي حاق بوطنه وبأجيال من أجداده. نستشهد على تسامح الجزائريين بمثالين أولهما: قلّما يُذكر، ألا وهو عدم الانتقام من الفرنسيين الذين قبلوا البقاء في الجزائر، فلم يحدث أي اعتداء على فرنسي واحد، من 1962 حتى سنوات البلاء الذي دُبّر بليل لإثبات أطروحة لازمت الإيديولوجية الكولونيالية طيلة ليل الظلم والظلام، وهي أن الجزائري عنيف ومتعصّب وذو طباع متوحّشة لا تقبل التحضّر والمدنيّة، وأن حرب التحرير كانت مجرّد تصفية حسابات بين العشائر والقيادات العسكرية والسيّاسيّة، وهو ما دأبت الصحافة الفرنسية على الاستشهاد به لإثبات المزاعم السابقة. وثانيهما أقرب عهدا ويتعلق بالاستقبال الرسمي والشعبي الذي خُصّ به الرّئيس جاك شيراك، وهو دليل على أن الجزائريين لا يضمرون الحقد لأيّ جنس أو عرق أو دين ويُميّزون بوضوح بين الضيف الذي يعرض الصداقة، وبين من يعبر البحر شاهرا سيفه، فمن تقاليدهم أن يردوا التحيّة بأحسن منها. إنّ اعتذار الدولة الفرنسية عن جرائم الدولة التي اقترفتها هو تعويض معنوي مشروع لملايين الضحايا يتعلّق بشرف فرنسا نفسها وهناك تعويض آخر لا يقلّ شرعيّة وهو قيام فرنسا بمشروع مارشال لإعادة بناء ما دمّرته خلال حرب عدوانيّة أُعلنت من طرف واحد، يمكن أن يُقدّر اليوم بآلاف الملايير من عملتها الحالية. الحقيقة واحدة وليست نسبيّة، إذا قامت على مبادئ الحق والعدل والحريّة وهي في كل الحالات في صفّ الشعب الجزائري وتحمل ختم رجال ونساء من السابقين الأولين، وكل الذين حملوا لواء الجهاد بعد يوم القديسين الجزائريين Le Tousaints الأول من نوفمبر 54.