طلبت قيادة المؤسسة العسكرية من الإعلاميين تسميتها باسمها، وفي هذا السياق نود تسمية الأشياء بأسمائها في حياتنا السياسية وفي مسائل اتخاذ القرار. في حديث الناس، وخاصة النخب، مازال التطرق مثلا لجهاز المخابرات ودوره في إدارة شؤون الدولة، لا يتم إلا تلميحا. قد يقول البعض إن المرحلة مازالت لا تسمح بهذا التطبيع وأن مناقشة هذه الموضوعات لم يحن وقتها وأنه كلما قللنا من الحديث في الموضوع كلما كان ذلك في صالح أمن البلاد وأمن مؤسساتها. لكن هل ذلك صحيح؟ الواقع أن الكثير إما يحمل المخابرات ومسؤولها الأول الكثير من النفوذ أو أنهم يحملونها حتى مسؤولية فشل السياسات وفشل الحكومات. فالكثير يؤكد بطريقة حاسمة وصارمة أن الحكم الحقيقي بيد المخابرات وبيد الفريق محمد مدين (توفيق). وهو ما يعني أن ممارسة السلطة واتخاذ القرار لا تتم وفق أحكام الدستور، وتلك، إن تمت، مسألة على قدر عالٍ من الأهمية، وإن كانت غير ذلك فمعناه أن هناك تصورا خاطئا يراد خلط الأوراق به. من الناحية العملية مازال التطرق لدور المخابرات في إدارة شؤون الدولة مسألة مسكوتا عنها، مع أن إدارة شؤون دولة لا يمكن أن تخلو من جهاز أمني قوي وقوي جدا ومتعدد التنظيمات ومتعدد أشكال العمل. نعم عمليا نحن لا نعرف عن المخابرات الجزائرية، وهي جهاز هام من أجهزة الدولة، الشيء الكثير ولا نعرف حتى عن مسؤولها إلا اسمه الحركي ''الجنرال توفيق''. الرجل، كما يعتقد الكثير من الإعلاميين، هو رجل دولة صاحب نفوذ بين كبير وكبير جدا، بل وأنه الثابت الأساسي في الدولة منذ 1990 بالخصوص. في الكثير من البلدان هناك ''تطبيع'' لعمل الاستخبارات ورئيسها وجعله يمارس وظيفته بشكل عادي يظهر للناس ويخاطب وسائل الإعلام، بل ويتحدث عن الأمن وعن السياسة وحتى عن العلاقات الدولية. لكن تصوروا معي لو أن ''الجنرال توفيق'' أدلى بتصريح وتحدث عن الوضع! قد تقوم الدنيا ولا تقعد. الجزائريون لم يتعوّدوا في الغالب التعرف على مسؤول المخابرات، بل إن الفريق توفيق ربما أكثر من غيره لا يحب الظهور بل أكثر من هذا فإن وسائل الإعلام كلها لا تملك إلا صورة واحدة قديمة له. هذا الأمر يمكن تفسيره بأنه تعبير عن أن وظيفة مسؤول المخابرات وظيفة ''تقنية'' ولا تستدعي ظهوره أو أنها وظيفة ''مهمة جدا'' وتتطلب عدم الظهور وعدم التعبير عن أي رأي علنا، أو أن ذلك تقليد نشأ في النظام السياسي الجزائري عبر تاريخه الحديث. في كل الأحوال من بين ما ينبغي إصلاحه الوظيفة الأمنية، خاصة تلك التي تمارسها البيروقراطية الأمنية، سواء التابعة لوزارة الداخلية أو للمخابرات، كما ينبغي إصلاح العلاقة بين الجهاز الأمني ككل ومؤسسات الدولة، وبين العسكري والسياسي. في كل هذا المسألة التي ينبغي أن تناقش هي تقييد السلطة كل سلطة وتحرير المجتمع، وهي أيضا ضمانات ممارسة سياسية عادية وشفافة وهي الصلاحيات الواضحة لكل من يتدخل في صناعة القرار والمسؤولية على نتائج السياسات والقرارات. المعروف بشكل أكيد أن المؤسسات العسكرية الأقوى والأجهزة المخابراتية الأقوى في العالم، موجودة في البلدان الديمقراطية. فالديمقراطية والتنافس السلمي الفعلي بين البرامج والنخب لا تعني، ولا يمكن أن تعني، إضعاف المؤسسة العسكرية أو إضعاف أجهزة الأمن. إنها تعني شيئين أساسيين: أولا توضيح المسؤوليات السياسية والدستورية، إذ لا يمكن أن يمنح الدستور مسؤوليات وصلاحيات امبراطورية للرئيس ثم إشاعة أن اتخاذ القرار موجود عند طرف آخر غير مسؤول دستوريا وقانونيا. وثانيا إشاعة الشفافية وتطبيع الرقابة والمحاسبة السياسية لكل ممارس للسلطة ولكل من يتولى مسؤولية عامة ويتدخل بهذا الشكل أو ذاك في اتخاذ القرار. في كل الأحوال القاعدة هي أن تتحكم المؤسسات في الأجهزة وليس العكس. وعليه ينبغي أن تعود للأحزاب وظيفتها وللمجتمع المدني وظيفته وللمجالس المنتخبة دورها وللقضاء استقلاله، وعلى الأجهزة أن تمارس وظيفتها فقط. وعلى العسكريين الراغبين في العمل السياسي دخوله بعد الاستقالة أو التقاعد. لا بد من تطبيع الوظيفة والتوقف عن هذا التقديس للمخابرات والأجهزة الأمنية أو تخوينها.