لو تم إخراج أرشيف الحملات الانتخابية السابقة ومقارنتها مع الحملة الانتخابية الجارية حاليا لتشريعيات 10 ماي المقبل، لوجد الجزائريون صعوبة كبيرة للتفريق بينها، لكونها نسخة طبق الأصل ولا جديد فيها، رغم أن المعطيات التي تجري فيها تختلف كليا عن سابقاتها. وبعيدا عمن يتحمل مسؤولية هذا ''الهزال'' الذي جعل ''الخطاب الانتخابي صار تجارة حقيرة''، حسب تعبير الناشط الحقوقي مقران آيت العربي، هل هي السلطة أم الأحزاب أم المواطن الذي سدّت شهيته وعود لم تتحقق والتزامات لم تر النور وخطابات لا يعرف منها الخيط الأبيض من الأسود، فإن ما يجري بشأن البرودة التي تقابل بها التشريعيات ليس بمعزل عن عدة أسباب، منها سنوات الغلق السياسي والإعلامي. الحملة الانتخابية تتحوّل إلى مونولوج بسبب العزوف الشعبي السلطة تجني ثمار سياسة الغلق لم تشهد الجزائر حملة انتخابية مثيلة لحملة تشريعيات 10 ماي، حيث صار المشهد الانتخابي عبارة عن مونولوج، أبطاله قادة أحزاب صاروا هم ''المرسل'' و''المتلقي'' في نفس الوقت. ترك المواطن مسؤولي الأحزاب ''يعزفون'' سمفونيات لأنفسهم، بعد أن ''عزف'' عنهم أصحاب الأصوات الثمينة، ليقينهم أن سمفونياتهم باتت ''قديمة'' قدم معاناتهم، في حملة انتخابية تحوّلت إلى ''مونولوجات'' جعلت قادة أحزاب يشعرون بواجب ''إتمام الحملة''، ولو بمخاطبة أنفسهم. والمتتبع لمجرى خرجات مسؤولي أحزاب يشعر أنهم أدركوا أن مخاوف العزوف الذي كانوا يحذرون منه صار واقعا، لذلك باتوا يخاطبون ''ناخبا مفترضا'' بدل ''ناخب حقيقي''، ليقينهم أن مشاركة ''محترمة'' يوم 10 ماي حلم صعب التحقيق. وبدت مظاهر اليأس في تعابير خطاباتهم، وأنزلت مستوى الحملة إلى دون مستوى تشريعيات 2007 التي شهدت هي الأخرى مقاطعة غير مسبوقة، لكن حملتها كانت أكثر جاذبية ولو بقليل، مع أنه لم تكن هناك إصلاحات أو ''مجرد وعود بإصلاحات''. واستفاقت السلطة بحكومتها على حقيقة أن الترغيب في الانتخاب لا ينبغي أن يكون وليد ظرف أو ''ملف احتياط''، يمكن أن يستخدم في الترغيب على التصويت، تماما كما أن الشعب لم يعد يهضم قوالب جامدة، كتلك التي تقول ''انتخب لدحض التدخل الأجنبي''، حتى إن كان عموم الجزائريين يرفضون ما حصل في ليبيا ويحصل في سوريا، بسبب التدخل الأجنبي، فالقضية من منظور المواطن، داخلية، كان على السلطة البدء في التعامل معها بمجرد صدور نتائج تشريعيات 2007، حيث أن الخمس سنوات التي مرّت كانت كافية لإقناع الجزائري بالمشاركة في رسم مصيره، بأداة تحسين علاقته مع المنتخب المحلي أولا. وتسببت السلطة كما الأحزاب في هذا الواقع، فالأولى روّجت لإصلاحات ''عرجاء''، والثانية أفهمت الجزائريين بأن الإصلاحات ''مجرد ديكور''، في رسالة ''سامة'' وجهتها لهم، دون أن تحسب لتبعاتها، بأن تركتهم يستنتجون أنه ''لا جدوى من الانتخاب''. على هذا النحو، يطرح الواقع السياسي تساؤلا بأن الوصفة السياسية الكفيلة باستعادة ثقة شعب ضاعت لسنوات في غياهب غلق سياسي وإعلامي، تفطنت له السلطة متأخرة ومضطرة، فراحت تعلن عن إصلاحات انخرط فيها ''القاصي والداني'' و''الغث والسمين'' و''الكفء والردئ''، فأنتجت مشهدا عكسيا، كان وليد التعوّد على الغلق السياسي والإعلامي، انعزل فيه الشعب إلى زاوية، يعزف فيها، هو الآخر، سمفونيته الخاصة على إيقاع'' لكم البرلمان ابتلعوه إن شئتم، أما نحن، فهنا قاعدون''، بينما وجدت الأحزاب نفسها تؤدي ''مونولوجا'' أشبه بمونولوج ''خباط كراعو''. لا تختلف عما كانت عليه في الفترة التي أعقبت دستور 89 الطبقة السياسية بقيت حبيسة السنوات الأولى من التعددية رغم مرور أكثر من 23 سنة على ميلاد التعددية الحزبية، إلا أن هذا الفاصل الزمني لم يساهم كثيرا في ترقية الممارسة السياسية والحزبية التي بقيت حبيسة السنوات الأولى من بداية التعددية، لأن النظام لم يترك الفرصة للولادة الطبيعية للأحزاب، بقدر ما عمل على الإفراط في الغلق السياسي والعكس أيضا. في ظرف قياسي، فتحت وزارة الداخلية الأبواب على مصراعيها، لحسابات تعرفها هي فقط، وأعطت الاعتماد لأكثر من 20 حزبا جديدا، دون سابق تحضير، فقط لتقول للخارج، وليس الداخل، بأنها تؤمن بالديمقراطية والتعددية. والحاصل أنه تم تكرار نفس الأسلوب والطريقة التي اعتمدت بعد دستور 89 الذي نجم عنه ''تفريخ'' عشرات الأحزاب، فيما عرف يومها ب''15 واربط''، حيث تم تأسيس، في ظرف شهر واحد، 20 حزبا بعدما ''صامت'' السلطة التي لم توقع على أي شهادة ميلاد لمدة 10 سنوات. هذه الولادة ''الاصطناعية'' للأحزاب، جعلت أحزابا أخرى، على غرار زعيمة حزب العمال لويزة حنون، ورئيس الجبهة الوطنية الجزائري موسى تواتي، ترى في ذلك محاولة ل''تمييع'' التعددية السياسية، وللحيلولة دون تواجد أحزاب معارضة قوية وجادة. ويكون هذا الهدف الذي أرادته السلطة، عن قصد أو دونه، قد تحقق خلال هذه الحملة الانتخابية لتشريعيات 10 ماي المقبل، التي تعتبر نسخة طبق الأصل عن أول حملة انتخابية في بداية التعددية الحزبية في تسعينيات القرن الماضي، يحدث هذا رغم أن الجزائر تعيش في الألفية الثالثة. هذا الفارق في التوقيت الزمني، بين توقيت الجزائريين وبين ساعة سير الأحزاب السياسية، تجسد في عزوف المواطنين وعدم اكتراثهم بما يجري أو يقال في تجمعات الأحزاب بالولايات. هذا النفور الجماهيري الذي تتحمله السلطة في المقام الأول، لأنها فضلت الولادة ''القيصرية'' للأحزاب عن الولادة الطبيعية، هي مسؤولية تشترك فيها أيضا الأحزاب بقديمها وجديدها، حيث ''تكلست'' إلى درجة اجترار نفس الخطابات والوعود، وحافظت على نفس السلوكات والطقوس التي تسد ''شهية'' المواطنين، الذين أصبح يخيّل إليهم أنهم في كوكب والأحزاب في كوكب آخر، ولم تعد حتى الانتخابات تجمع بينهما. ومن الخطأ الاعتقاد بأن الجزائريين مات لديهم نبض العشق للسياسة، ولم يعد هناك ما يثيرهم ويشدّ انتباههم فيها، بل بالعكس تولد لديهم، بفعل سنوات الدم والدمار، سقف عال من ''الفهم''، تبيّن أنه ليس بمقدور لا السلطة ولا الأحزاب فك شفرتها ومعرفة محتواها، ليس لتعقدها، وإنما لنشوء ''قطيعة''، فرضها غياب أي نيّة للاقتراب من الشعب وما يفكر فيه ويحتاج إليه. الجزائر: ح. سليمان حوار الناشط السياسي والمحامي مقران آيت العربي ''الخطاب الانتخابي صار تجارة حقيرة'' تعكس برودة تعاطي الجزائريين مع حملة انتخابات تشريعيات ماي 2012 الغلق الإعلامي والسياسي الذي فرضته السلطة منذ سنوات، هل تشاطر هذا الرأي؟ الغلق الإعلامي والسياسي ليس وليد اليوم، بل هو من ''ثوابت'' النظام منذ الاستقلال. وقد بلغ حده الأقصى خلال العشرية الأخيرة، ما يجعل المسألة أخطر من الغلق الإعلامي والسياسي. إن ما يعرفه المواطن عن الانتخابات السابقة، الرئاسية والتشريعية، والمتمثلة في تزوير الانتخابات والرشوة وعدم حياد الإدارة وغياب استقلال القضاء ومباركة جميع الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات القادمة، والتي قاطعتها بنظام (الكوطات) وما ينجم عنه من المشاركة الضمنية في التزوير، قد جعل الشعب الجزائري لا يبالي بالانتخابات. وإذا أضفنا إلى ذلك عشرات القضايا المتعلقة بالفساد وتحويل الأموال العمومية بآلاف الملايير من الدينارات والاكتفاء بمتابعة الإطارات المسيّرة دون المسؤولين السياسيين، يمكن أن نفهم هذه البرودة. ماذا تفهم عندما يطرح قادة الأحزاب في خطاباتهم قضايا تداولتها الطبقة السياسية قبل أكثر من 20 سنة، أي بعد الانفتاح السياسي؟ لا أعتقد بوجود أحزاب سياسية في الجزائر بالمفهوم العصري، المتمثل في وضع أرضية سياسية تحدّد أسس ومنطلقات وأهداف الحزب، والعمل يوميا قصد التفاف أكبر عدد من المواطنين حول البرنامج والتصويت عليه، لتجسيده في الحياة العملية. إن ما يسمى بالأحزاب السياسية في الجزائر ما هو إلا عصبيات بمفهوم ابن خلدون للمصطلح، وهو ما جعل قادتها لا يدركون أنه مرّت 23 سنة على التعددية، وأنه يوجد جيل جديد ولد بعد أحداث أكتوبر 1988 وصار في سن خوض العمل السياسي، بما فيه الانتخابات. إن الخطاب الانتخابي، كما نتابعه يوميا على الشاشة، يدل على أن العمل السياسي لم يعد عمل النخبة، بل صار مجرد عمليات تجارية حقيرة على حساب مستقبل الجزائر. هناك من يقول إن هزال حملة الانتخابات تتحمّله الأحزاب العاجزة عن طرح بديل للسلطة؟ السلطة لا تريد بديلا لها، فهي تعمل من أجل رشوة الطبقة السياسية، لتسايرها وتعمل وفقا لإرادتها. كيف يمكن لقادة الأحزاب التي تدّعي المعارضة بمناسبة الانتخابات، وفي نفس الوقت تقيم في الأماكن الراقية المؤمّنة على حساب الدولة، أن تطرح بديلا؟ أعتقد أن ما يحدث اليوم وما سيحدث غدا نتحمل مسؤوليته جميعا، سواء كنا في السلطة أو المعارضة أو المجتمع المدني أو الأغلبية الساحقة، فالقضية تتجاوز الأحزاب. والبديل لن يأتي إلا عن طريق نخبة جديدة تظهر من الشعب، بعد نقاش وحوار حرّ، وهذه النخبة التي أتحدث عنها ستتكوّن من كفاءات، لم تنهكها السلطة ولم تغرها امتيازات ولم يفسدها المال. الجزائر: حاوره حميد يس عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة ورفلة بوحنية قوي ''الأحزاب تتحمّل جزءا كبيرا من المسؤولية في الوصول لهذه الحالة'' من يتحمّل مسؤولية عدم اكتراث المواطن بالحملة الانتخابية، هل المواطن نفسه أم السلطة أم الأحزاب؟ إن عدم اكتراث المواطن بالحملة الانتخابية، رغم تجند السلطة لرفع درجة حرارتها السياسية منذ أشهر، يعود إلى تشتت انتباه المواطن بشكل أفقده البوصلة السياسية في التفريق بين الكيانات السياسية التي تجاوزت الأربعين حزبا وعشرات القوائم الحرة، وهو، أي المواطن، مسكون حاليا بفواتير المواد الاستهلاكية وارتفاع أسعار الخضار ومواد البناء. وفاقم من هذه الحالة الباردة سياسيا ذلك التشابه في الخطاب السياسي الحزبي المتخم بالوعود الواهمة، فتولد الإحساس الجماعي لدى فئات كثيرة من المواطنين بعدم جدوى الحملة في حد ذاتها، وتزايدت القناعة لدى فئات أخرى بأن الأحزاب الجديدة لن تقوى على فعل مؤسساتي حقيقي ميداني، نظرا لحداثة ولادتها ونقص تجربتها. هل توافق الطرح الذي يقول بأن الغلق السياسي والإعلامي الذي شهدته البلاد، منذ أكثر من 10 سنوات، قتل في الجزائريين الرغبة في التعاطي مع السياسة؟ ينشط بالجزائر منذ التعددية السياسية أكثر من عشرة أحزاب، عايشت التقلبات المختلفة، وساهمت في التواجد العددي بالبرلمان، وشاركت بصياغة قرارات وقوانين مصيرية، ولم تعان في أغلبها الغلق والتضييق على أنشطتها، وكان ينتظر منها أن تساهم في خلق نخبة وطبقة سياسية، وتؤدي مهامها في تشييد المؤسسات، وهو ما لم تقم به، للأسف الشديد. وإذا كان المشرّع الجزائري وصانع القرار رأى في عدم فتح الفضاء الإعلامي، خصوصا السمعي البصري، ضرورة في السابق، فقد كان الفضاء الصحفي، الصحافة المكتوبة، مفتوحا، وهو ما لم تتمكن الأحزاب من توظيفه واستغلاله في رسم خطاب إعلامي حزبي. وعليه، فإن الأحزاب تتحمّل جزءا كبيرا من المسؤولية في الوصول لهذه الحالة، إذ أنها اكتفت بوظيفة التسويق السياسي والترويج الانتخابي الموسمي، وحادت عن عملية التنشئة والتكوين السياسيين، وهو ما شكل حالة من الفصام بين الناخب والمنتخب والحزب والمتحزب. هل برودة التعاطي مع خطاب الأحزاب في الحملة يعكس قناعة لدى المواطنين بأن الانتخابات لم تعد تعبّر عن طموحاته؟ هذه الحالة، للأسف الشديد، تعكس حالة الاغتراب بين المواطن والأحزاب، والاغتراب كظاهرة سوسيوسياسية تتنامى عند ما يتزايد الشعور بعدم جدوى الانتخابات والأحزاب والعملية السياسية الانتخابية برمتها. والمواطن الجزائري يقف حاليا وسط سوق انتخابية وسياسية حقيقية، تتميز بوجود فاعلين كثر. ومن هنا، فالكوادر الحزبية المترشحة للانتخابات مطالبة بتطوير ميكانيزمات التواصل مع الجماهير، وملزمة بتعزيز الاتصال الجواري والمحلي، وإظهار النزاهة وفهم الواقع المحلي، وتقديم برنامج حقيقي يعكس الفهم الحقيقي لوظيفة النائب البرلماني، وإلا فإنها ستفاجأ بأحجامها السياسية والاجتماعية الحقيقية، عندما تعلن نتائج الانتخابات.