أحدثت الثورة الإيرانية إقليميا اختلالا نسبيا في القوة لصالح العراق، في مرحلة اتسمت بغياب النظام عن الفعل العربي، بعد مقاطعة العرب له نتيجة اتفاقية كامب ديفيد والصلح مع إسرائيل، واتجاهه المتزايد للعمل في خدمة المصالح الأمريكية، طبقا لمخططات كيسنجر وبريجنسكي من بعده. لكن الثورة هددت المصالح الإستراتيجية الأمريكية في الخليج بعد سقوط الشاه الحليف السابق لواشنطن برفعها شعارات معادية لها، واعتبارها الشيطان الأكبر في العالم، والمناداة بضرورة إبعاد نفوذها عن الخليج، في وقت كانت فيه واشنطن شديدة التوتر تجاه الوجود السوفيتي في أفغانستان. واختل بناء المؤتمر الإسلامي، الذي كاد يصبح بديلا موازيا للجامعة العربية خلال مرحلة المد القومي، وتقوى بوجه خاص خلال عثراتها وخصوصا بعد اعتلالها، ويرى هيكل أنه كان، بذاته وصفاته، مشروع الحلف الإسلامي، استنساخا لحلف بغداد الذي أسقطه التيار القومي في 1958. وللتذكير فقد كُلف السادات في منتصف الخمسينيات بقيادة المؤتمر، الذي كان استقطابا للشارع المسلم ضد حركة الإخوان المسلمين في مصر، بعد أن تم حلها إثر محاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر في الإسكندرية منتصف الخمسينيات. وكان المؤتمر جسر اتصال بين السادات وقيادات عربية خليجية، وكانت تنظيماته الشبابية، بالنسبة لنا كطلبة جزائريين في مصر، مجالا للتعريف بالثورة الجزائرية الوليدة، ورُفع العلم الجزائري رسميا للمرة الأولى في الاحتفال الذي أقمناه في معسكر الشباب المسلم في بورسعيد عام 1955، وألقى كلمة الجزائر يومها المناضل حسين آيت أحمد، في غياب بقية الثلاثي، أحمد بن بله ومحمد خيضر. وعندما قامت ثورة الخميني رفضت الجزائرُ الاتجاه العربيّ الذي كان يدفع للتناقض معها بمنطق التحالف العرقي، إيمانا بأنه لا فرق في الإسلام بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وبأن العروبة ليست تعصبا للعرق أو ارتباطا بالسلالة، المقصورة على الحيوانات، حيث يقال حصان عربي كما يقال كلب ألماني وقط فارسي وديك هندي ودب قطبي وخنزير غيني. ورفضت الجزائر أي مساس بالعمق الإسلامي للوطن العربي، وكان هذا أول المواقف الدولية الهامة التي اتخذها الرئيس الشاذلي بن جديد تجاه الميثاق القومي العراقي ذي النقاط الثمانية، والذي تسرع أحد الحكام العرب فأعلن عن مباركته له إثر الإعلان عنه من بغداد، في حين رأت الجزائر أنه يجعل من العروبة ناديا عرقيا. وكان ردّ الرئيس على سؤال صحفي حول الميثاق بأنه //مشروع جدير بالدراسة// أي أن المسألة فيها نظر وتحتاج لحوار عربي واسع، وهو ما أدى إلى إجهاض فكرة التدافع العربي حوله لإقراره، وضاع الميثاق أدراج الرياح، وكان هذا تناقضا بالغ الأهمية بين موقف مصر وموقف الجزائر، سيؤكده الرئيس الشاذلي خلال جولته المشرقية في أبريل 1980، خصوصا بعد أن أحست الجزائر أن هناك شيئا ما يطبخ ضد إيران. واندلعت الحرب العراقية الإيرانية في 22 سبتمبر 1980 ، وبعد خمسة أيام من اندلاعها أعلن صدام حسين أن : (( مطالب العراق من حربه مع إيران هي: الاعتراف بالسيادة العراقية على التراب الوطني العراقي ومياهه النهرية والبحرية، وإنهاء الاحتلال الإيراني لجزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى الإماراتية عند مدخل مضيق هرمز (وهي جزر كانت قد احتلت في عهد الشاه ولم يجرؤ أحد على تناول أمرها آنذاك)، وكفّ إيران عن التدخل في الشؤون الداخلية للعراق)) وكان واضحا أن البداية الحقيقية للحرب كانت مع قيام الثورة الإيرانية التي أزعجت العراق بشدة لأسباب متعددة، أهمها وجود أغلبية شيعية هامة لديه، لكن كل القوى الدولية والإقليمية التي كانت متحالفة مع الشاه كانت تشاطر صدام حُسين انزعاجه، ومن هنا رأى الرئيس العراقي أن يبادر بسحق الثورة الإيرانية، خصوصا وقد نقل له أنها تعاني من انهيار سياسي امتد إلى الجيش الإيراني وقيادته، بالإضافة إلى ما قيل له من ازدياد قوة الحركات الانفصالية الداخلية، وتدهور الاستقرار الداخلي، وتعامل قادة الثورة مع الجيش بتوجس وتشكك، مما أدى إلى تفكك القوات المسلحة، بحيث بدا أن الجيش القوي الذي أنفق عليه الشاه مليارات الدولارات أصبح على وشك الانهيار والسقوط. هذه الأمور أغرت القيادة العراقية بإمكانية تحقيق نصر عسكري سريع في حرب قصيرة على إيران، لتحقيق مكاسب أبرزها فرض المطالب العراقية التي رأى الرئيس العراقي أنه تنازل عنها في اتفاقية الجزائر في 1975 عندما أبرم صفقة سياسية مع إمبراطور إيران السابق، ضمنت أن يكف الشاه عن مساعدة الثوار الأكراد في العراق، واستفاد العراق من هذه الاتفاقية في إيقاف المساعدات الإيرانية لحركة التمرد الكردية التي قادها الملا مصطفى البرزاني، ونجح النظام مرحليا في القضاء عليها. و بدون إخطار للجزائر أو استشارتها، طبقا لما أشارت له الاتفاقية بالاستعانة بالوسيط (الجزائر-) في حالة حدوث أي سوء تفاهم حولها، بادر الرئيس العراقي في جلسة أمام البرلمان قبل بدء الحرب بخمسة أيام، إلى إعلان إلغاء اتفاقية الجزائر، والتنديد بها ووصفها بأنها : (( كانت نتيجة الظروف التي أمْلتها، أما شط العرب فيجب أن يظل عراقيًّا اسمًا وفعلا)) وشجع صدام على اتخاذ قرار الحرب عدد من السياسيين والقادة العسكريين الإيرانيين الذين فروا من إيران بعد قيام الثورة، وصوّر هؤلاء لصدام الوضع الداخلي في إيران على أنه شديد التمزق، وأن الحكومة شديدة الضعف، وأن إيران أصبحت هدفًا سهل المنال، وكان دافع هؤلاء من ذلك التحريض هو الانتقام لأنفسهم من الثورة، والأمل في العودة السريعة إلى طهران، إذا ما نجح العراق في إسقاط النظام القائم في إيران. وكان موقف صدام أساس النفور بين الجزائر والعراق آنذاك. ويقول هيكل (أوهام النصر ص 122-) أنه لم يكن لدى واشنطون مانع من أن تطول مدة الحرب، وكان التقدير أن ذلك : ((سوف يؤدي إلى تحجيم دور العراق الإقليمي حتى ولو خرج من الحرب منتصرا ، ولم يكن هذا رأي واشنطون وحدها، ولا رأي بقية التحالف الغربي فقط، وإنما كان هذا الرأي شائعا حتى لدى بعض الجيران العرب للعراق وإيران (..) وكان الملك خالد عاهل السعودية أكثر أمانة من آخرين في التعبير عن مكنونات نفسه، فحين وصلت صباح يوم 23 سبتمبر أنباء الهجوم العراقي على إيران (..) هز الملك رأسه وتمتم بنصف بيت شعر عربي قديم يقول: وقد تموت الأفاعي من سموم العقارب (..) وربما لم يكن كيسنجر بعيدا عن الحقيقة حين قال : هذه أول حرب في التاريخ نتمنى ألا يخرج فيها أي منتصر، وإنما يُهزم فيها الطرفان. ولقد كان التصور العراقي لمسار الحرب مع إيران متأثرا إلى حد كبير بسوابق حروب جرت من قبل، فالقتال في العادة يستمر أسبوعين أو ثلاثة أو شهر على أكثر تقدير، ثم يعقبه قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار ودعوة الطرفين إلى التفاوض، لكن مجلس الأمن تحرك على مهل وببطء شديد، وبدأت الوساوس تراود العراق وغير العراق بأن هناك خطة خفية تقصد إطالة أمد الحرب إلى أقصى حدّ ممكن. وراح العراق يبحث عن السلاح في كل الأسواق، وشجعت الدولة الغربية الصفقات التي حققت لها أرباحا كبيرة، بجانب مساهمتها في استمرار الحرب (..) بل إن بوش راح بعد ذلك يشجع على زيادة حجم التجارة مع العراق على أساس أن ذلك يمكن أن يكون مفيدا للمصالح الأمريكية، وهو ما تجاوب معه الرئيس صدام حسين فيما بعد فأوقف معوناته للجنرال ميشيل عون في لبنان، وأعلن أنه يترك لدول المواجهة مثل مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية حرية الحركة في محاولات الوصول إلى تسوية للصراع العربي الإسرائيلي. وقضية الحرص على أن تطول مدة الحرب تجعلنا نفهم لماذا أسقطت الطائرة الرئاسية الجزائرية التي كانت تقل وزير الخارجية الجزائري محمد الصديق بن يحيى وهو يتنقل بين طهران وبغداد لإيقاف الاقتتال الرهيب بين البلدين الجارين، وبرغم ما قيل من أن صاروخا عراقيا هو الذي أسقط الطائرة فإن أسلوب مخلب القط ليس جديدا في التعاملات الدولية، ومن هنا فإن من قتل وزير الخارجية ورفاقه يوم 3 مايو 1982 هو على وجه التحديد من كان يريد للحرب العراقية الإيرانية أن تستمر حتى تجهز على الطرفين، وبالتالي كان عليه أن يحول دون نجاح أي مسعى لإيقافها، وهو ما كانت الجزائر تقوم به، وإذا كانت اليد التي أطلقت الصاروخ عراقية فإن من وراءها، وطبقا للتحليل السابق، لم يكن عراقيا، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة عن حجم الاختراق الأمريكي للمنطقة. ويروي هيكل قصة غريبة عن رئيس دولة زار العراق في منتصف الثمانينيات وأسرّ لصدام حسين بما سمعه من السفير الأمريكي في بلاده من أن هناك تفاهما بين واشنطون وعدد من الدول العربية للحيلولة دون انتصار عراقي في الحرب، لأن العراق إذا خرج منتصرا فإنه سوف يثير في المنطقة مشاكل لا حدود لها، وأن هؤلاء الأطراف الذين تحدث عنهم السفير إلى الرئيس ناقل المعلومة مستعدون لكل الاحتمالات حتى وإن أدّت إلى تقسيم العراق، ثم يضيف الزائر بأنه أثار القضية مع الملك فهد الذي نفى بشدة وجود أمر من هذا القبيل، وأكد الملك ذلك فيما بعد لصدام حسين شخصيا. وإذا كانت المبادئ هي التي تحرك الشاذلي بن جديد فإن الأمور بالنسبة للبعض لم تكن دائما قضية مبادئ، وهكذا كانت الحرب فرصة انتهزها السادات، وبجانب وراثة موقع الشاه في خدمة الوجود الأمريكي، للتخلص من الأسلحة السوفيتية التي اعتمد عليها الجيش المصري في كل حروبه بعد ثورة يوليو. يتبع الأحد القادم