إنزعج كثير من الناس لما نزلت برقيات وكالات الأنباء تتحدث عن اعتزال عنتر يحيى ونذير بلحاج اللعب الدولي، ورأوا في ذلك مؤامرة دُبّرت بليل لتفجير بيت محاربي الصحراء، لا تختلف عمّا حدث عشية الانتخابات التشريعية في بيت الحزب العتيد (..) ولكنّ الفاف طمأنت الجمهور بأنّ هذا الخيار أحق أن يحترم لأنه صدر عن لاعبين قدّما الكثير للنخبة الوطنية، وعزز زياني موقف الفاف بالرأي نفسه.. وواصل الناس حديثهم عن حظوظ سرار وبلومي ومدوار وعبّاد وغيرهم من الشخصيات الرياضية التي خرجت من ملاعب الكرة لتدخل ملاعب السياسة.. كما واصل الناس حساب النقاط فيما تبقى من مباريات لنيل اللقب بين سوسطارة أم عين الفوارة.. ليقطع خطاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الثامن ماي بسطيف كلام الناس بتهنئة الوفاق لنيله الكأس، وحثّ الشباب على ضرورة الاقتراع بقوة، لأنّ الأمر لا يتعلّق بحزب أو فريق ولكنّ بمستقبل الأجيال.. في الحملة الانتخابية سمعت العجب، وقرأت عن وعود غريبة ومستحيلة التزمت بها أحزاب ودافع عنها مترشحون تجاه منتخبِيهم، حتّى أنني شعرت أنّهم يمتلكون عصوات سحرية، أو أنهم من فصيلة السوبرمان (..) ولم يبق لهم إلاّ أن يرشحوا غوارديولا بعد مغادرته برشلونة ليكون نائبا، ويجلبون ميسي وكريستيانو وإنييستا ليلعبوا لفرقهم، ويبنون ملاعب بحجم ماراكانا وبيرنابيو، ويحصلون على كأس العالم للأندية وينظّمون كأس العالم في 2026 بالجزائر.. وهكذا. لقد مررت بتجربة الحملة الانتخابية في 1997 ولم أفكّر أصلا في تقديم وعود قابلة للتحقيق، فكيف بالوعود المستحيلة. إنّ المواطن ليس ساذجا، وهو لا يريد أكثر من أن يكون المترشح ''نورمال'' مثل ''فرانسوا هولاند'' لا يعد بما لا يفي به.. ويكفي أن يقول ''سأسعى'' وإلاّ فسيضع التسعة.. عندما تحدثت عن غوارديولا، رأيت في الرجل نموذج النجاح والتألق والتفوق والخروج منتصرا ولو في لحظة إخفاق. ورأيت فيه العرفان بما قدمه له جمهوره، والشعور بما قدمّه هو لجماهير برشلونة وإسبانيا والعالم من اجتهاد في جعل كرة القدم اللعبة التي لا لغة لها إلا المتعة ولا منطق لها إلا الإبداع.. فمن هو بيب غوارديولا الذي ودّعه لاعبوه برباعية ميسي المبهر في الكامب نو، وعشرات اللافتات التي شكرته على ما قدّمه في السنوات الأربع؟ نشر ديفيد ترويبا، وهو روائي وسينمائي إسباني، من أصدقاء غوارديولا العارفين بخباياه، منذ عامين رواية بعنوان ''أن تعرف كيف تخسر'' مستوحاة من عالم الليغا الإسبانية، استوحى وقائعها من سيرة مدرب برشلونة بيب غوارديولا، أو هكذا قرأها النقاد والجمهور.. ملخصها قصة لاعب كرة أرجنتيني من ذهب يتلقفه فريق من مدريد، ويتبناه مدرب ينظر إلى الكرة بفلسفة تتأسس على أن ''المهاجم محكوم بضرورة ابتكار فضاءات ويعمل على الانتشار فيها..'' قد يكون المعنيّ بذلك ميسي، بالرغم من أنّ ترويبا اختار فريقا من مدريد.. وليس من كاتالونيا. وتعود علاقة ترويبا بغوارديولا إلى سبع عشرة سنة عندما حضر فتى برشلونة الذهبي ندوة أدبية حول الشاعر الإسباني الكاتالوني ميغويل مارتي بول، حيث قرأت بعض قصائده، إذ لم يكن من عادة أهل الجلد المنفوخ حضور فعاليات أدبية.. ولكن غوارديولا من طينة إبداع، مما دفع ترويبا إلى الإقتراب منه والتعرف عليه أكثر، ليتلقى دعوة من بيب لحضور مباراة في برشلونة، وهكذا بدأت علاقة الكاتب باللاعب الذي صار يهتم بالأدب والسينما والسياسة قدر اهتمامه بالكرة. وتلك ظاهرة مختلفة عمّا عرف عن اللاعبين الذين يعيشون ما يشبه العزلة، وأقصى ما يهتمون به هو المال والنساء والسهرات الصاخبة. فغوارديولا رغم موقعه على رأس النادي الأكثر تأثيرا في العالم يقتطع بعض الوقت ليشاهد مسرحية أو فيلما أو ندوة أدبية، وكثيرا ما يشاهده الجمهور في أعرق المكتبات الإسبانية لاقتناء جديد دور النشر، ولا يشبهه في هذا سوى الحارس التاريخي لإسبانيا زوبيزاريتا ذي الميول الفنية. ويطلق ترويبا على غوارديولا لقب ''مثقف اللعبة''، وتتجلى قدرته في أنّ لغته تتسم بالجمالية والإبداع، كونه يقرأ ويكتب كثيرا، وهو ما يفضي على منهجيته مسحة من الرؤية الفنية والتقنية. ويظهر أيضا ذوقه من خلال هندامه المتميّز، إذ فضلا عن انتقائه للألوان والتفصيلات، تسعى زوجته كريستينا، صاحبة محل للألبسة النسائية، إلى جعله أكثر أناقة، وربّما أخطأت هذه الزوجة في ذلك، كون بيب صار طريد النساء (..) ويضاف إلى ذلك أن والديه يملكان محلات للألبسة في قلب برشلونة، وبالتالي فلا يعقل أن يبيت الطباخ على بطن خاوية (..) وأكثر من هذا، فإنّ تاريخ بيب يشير إلى أنّه في سن الثامنة عشرة كان أحد أبرز وجوه الموضة لتشكيلات ملابس أنطونيو ميرو.. وأمّا الميزات الأخرى لغوارديولا، فيحصرها ترويبا في أنه لا يقبل نقدا غير مؤسس، ويدافع عن وجهة نظره بأفضل ما يكون، لهذا فهو يعمل كثيرا ليصل إلى هدفه، ويعرف أن من يتعب كثيرا عليه أن يرتاح.. وهو ما دفعه إلى اتخاذ قرار مغادرة برشلونة إلى وجهة هو أعلم بها.. قد تكون بيته إلى حين. لقد أوقفت عديد الفضائيات العالمية برامجها لتبث على المباشر إعلان مغادرة غوارديولا العارضة الفنية لفريق الأحلام الكاتالوني، وكأنّ الأمر يتعلّق بانقلاب عسكري أو تسونامي (..) فاستمع جمهور القارات الست إلى رجل هادئ ومتأثر جدّا وهو يعلن طلاقا بالتراضي مع حسناء يقاسمه حبّها الملايين في العالم اسمها برشلونة. قال بيب ''إنّ عمل المدرّب يتطلّب طاقة كبيرة، وأنا أشعر أنني استنفذت، وأنني بحاجة إلى قدر من الراحة. لقد أفرغت تماما. وهذا قرار بدأ ينضج منذ أكتوبر الماضي، واحتفظت به لنفسي، حتّى لا يؤثر على اللاعبين. إنني أتأسف بعمق حول ما يدور بشأن مستقبلي. قد يكون هذا خطأ، فأنا وقّعت لعامين، لكنّهما امتدا إلى عامين آخرين، وهو كثير بالنسبة لمدرب، إذ تكفيه فترة أقلّ..''. لقد شعر بيب بالملل فاختار أن يرتاح بعد أن حصد من الألقاب ما يجعله يستحق لقب شاعر الكرة بامتياز.. www.azzedinemihoubi.com