الكلام البذيء يؤذيها.. والمعاصي تمنعها من الاقتراب من جسم المريض شهدت إحدى المناطق الجبلية بمنطقة عين لفراج، 80 كلم شمال ولاية سطيف، توافد العشرات من سكان المنطقة العارفين بأسرار ''حمام أبعيش'' الواقع بقرية لعزيب، بغرض التداوي من مختلف الأمراض الجلدية والعصبية. هذا المكان عبارة عن بركة مائية كبيرة، تحتوي على أعشاب خضراء تتجمع تحتها المئات من حشرات العلق، ورغم شهادات العشرات من المرضى الذين التقتهم ''الخبر''، إلا أن قصص كثيرة نسجت حول المنطقة وبركتها، وكرامات تنسب للبعض دون الآخر. في حضن سلسلة من الجبال الشاهقة وطبيعة متنوعة خلابة، يقع ما بات يعرف بحمام أبعيش، مكان يوجد منذ مئات السنين لكن دون أن يعلم به الكثير، وظل حكرا على قلة قليلة من سكان المشاتي المحيطة به. لكن ومع مرور السنوات تناقلت الكثير من الألسن قصص عن أناسا تعافوا من الكثير من الأمراض بمجرد دخول المستنقع الأخضر، الذي يعتبر في الأصل ملعبا لكرة القدم، ولا ترتفع مياهه العذبة سوى في بداية شهر ماي من كل سنة، ثم تختفي بشكل كلي في منتصف شهر جويلية، وتعيش داخل هذا المستنقع المئات من حشرات ''العليق'' التي يتداوى بها المرضى. والغريب في الأمر أن هذه المخلوقات الصغيرة تظهر بشكل حصري بين العاشرة صباحا والثالثة زوالا، وهذا بالتوازي مع ارتفاع درجات الحرارة، فتنساب نحو أرجل المرضى وأيديهم، شرط أن تكون تحت الماء، فتلتصق بها بواسطة أنياب صغيرة ومجهرية لا ترى بالعين المجردة، ثم تباشر عمليات شفط الدم الفاسد من الجسم، وما هي إلا دقائق فقط حتى تختفي تحت الماء والطين تاركة جراحا خفيفة، وراحة لدى المريض لا توصف. أمراض مستعصية ودودة لدى جولة ''الخبر'' في أرجاء هذا الحمام الطبيعي، سمعنا شهادات كثيرة لرجال ونساء أكدوا لها شفاءهم التام من أمراض مستعصية، مثل الروماتيزم، و''الشقيقة'' (الصداع النصفي)، والتهابات الجلد وعسر الدورة الدموية، وغيرها. يقول حسين رجل مسن معروف بتواجده المستمر في البركة المائية: ''هذه الحشرات بركة ربانية، كنت لا أستطيع الوقوف في الصلاة بسبب آلام المفاصل، خاصة على مستوى الركبة، غير أنني صرت آتي إلى البركة بمفردي، ومن دون مساعدة أحد''. ويروي محمد الذي يقيم بمدينة بوفاعة غير البعيدة عن حمام أبعيش: ''أعاني من مرض الدوالي الناجم عن توسع في الأوعية الدموية منذ سنين، ولما جربت التداوي بديدان العليق شعرت براحة كبيرة، وصدقني صرت أنتظر موسم حمام أبعيش بفارغ الصبر''. من جهتها إحدى العجائز التي حضرت برفقة ابنها، روت بمرارة قصة المرض الذي أصاب وجهها، وسبب لها تشوها كبيرا، خاصة وأن تلك الجروح تتعفن ومتقيحة، قالت: كنت مستعدة للذهاب إلى أي مكان بغرض الشفاء، غير أن ابني أحضرني منذ ثلاث سنوات إلى هذا المكان، كنت أترصد تلك الدودة وأحملها في إناء صغير وأضعها على وجهي، فتمتص كل تلك المواد المتعفنة، وبالتدريج عادة النظارة إلى وجهي''. مغتربون وأجانب في الحمام تصادف تواجد ''الخبر'' في المكان مع حضور الكثير من أفراد جاليتنا في فرنسا للتداوي بديدان العليق، اقتربنا من أحدهم، فقال: ''نحن من أبناء منطقة بوعنداس المجاورة لبلدية عين لفراج، ونحن نثق في العلاج الطبيعي أكثر من العلاج في المستشفيات، فقد عالجت لسنين طويلة من أجل التخلص من آلام عرق النسا (أو عرق لاسا)، غير أنني لم أستعد راحتي إلا بعد استحمامي بمياه هذا الحمام الطبيعي''. وفي حديث معه، أكد رئيس بلدية عين لفراج وجود وفود أجنبية كثيرة، من ألمانيا وبلجيكا وفرنسا والبوسنة، وهذه الوفود تتزايد أعدادها من سنة إلى أخرى، بفضل التنسيق مع إحدى الجمعيات المحلية الناشطة في مجال السياحة الجبلية والبيئية، زيادة على عقدها للكثير من الاتفاقيات مع ناشطين من البوسنة من أجل خلق شراكة استثمار في المنطقة، وتنمية الحمام الطبيعي، فيما يسعى إلى تحسيس السلطات المحلية بضرورة الاهتمام بهذه الظاهرة الفريدة من نوعها في الجزائر، خاصة وأن المنطقة التي يتواجد بها تفتقر إلى أدنى الضروريات، مثل الطرق والممرات، وكذا أماكن الراحة واقتناء حاجيات الزوار. ممنوع الكلام الفاحش ويروي سكان المناطق المحاذية لحمام أبعيش قصص غريبة عن ''ديدان العليق''. ويقولون إن من أول الشروط المطلوب توفرها في الشخص الراغب في العلاج أن يكون طيب القلب، وغير عاق لوالديه، حتى تقترب منه الديدان، مفسرين ذلك بأن دم الإنسان العاصي لا تستسيغه الديدان، خاصة وأنها مذكورة في القرآن الكريم، عند قوله تعالى ''خلق الإنسان من علق''. زيادة على أن الكلام الفاحش يؤذي الحشرات، ويمنعها من الظهور بغرض التداوي. وعلى هذا الأساس يحرص الوافدون إلى الحمام على عقد النية الحسنة قبل الاستحمام. ومن الأمور التي أثارت الجدل، خلال الفترة السابقة، منع تصوير المكان، بحكم أن الكثير من النساء يمددن أرجلهن داخل الماء. كما يحرص كل من يأتي إلى حمام أبعيش على ترك المياه نقية، حفاظا على تلك الديدان التي تموت بمجرد خروجها من الماء وتعرضها للهواء. حسب المختص في علم البيئة ناصر جيرار العلاج بهذا النوع من الحشرات معترف به عالميا دعا المختص في علم البيئة بجامعة فرحات عباس، الدكتور ناصر جيرار، إلى ضرورة الاستثمار في هذه الظاهرة الطبيعية من أجل خلق تنمية مستدامة في تلك المنطقة، محذرا من المساس بالقاعدة البيئية التي تعطي التوازن للمنطقة، خاصة تلك المتعلقة بحفر آبار ارتوازية قد تؤثر على ظاهرة صعود المياه الموسمية بالبحيرة الصغيرة. وعن صحة الأخبار حول شفاء المرضى من أمراض الروماتيزم، والدوالي، والقرح الجلدية. قال جيرار ''العلاج بهذه الديدان أمر معروف عالميا، غير أنها نادرا ما تظهر في مناطق جافة، مثل ولاية سطيف، فهي تختار الوديان والبحيرات. وتوجد الكثير من التفسيرات العلمية الحديثة لهذه الظاهرة، فالعلق يتبع شعبة الديدان الحلقية Annelida، التي تتميز بانقسام جسمها إلى عدد كبير من الحلقات، بناء على النوع، يتراوح طولها من 7 إلى 20 سم، ويتواجد في المياه الحلوة الراكدة في البرك والمستنقعات، وينتشر في بعض دول أوروبا، وفي سوريا يتواجد في منطقة غوطة دمشق ومحافظة حمص وحماة على وديان العاصي. وعن كيفية عمل هذه الآلية عند ديدان العليق، قال الدكتور جيرار: ''عند دخول الإنسان إلى بركة الماء فإن العلق يشعر به ويقترب من أي جزء في جسمه، ويبدأ بتثبيت الممص الأمامي، ثم إدخال الفكوك الثلاثة المسننة، والتي تحدث خدشا ذا ثلاث شعب، ثم يقوم العلق بعد ذلك بإفراز اللعاب الذي يحتوى على ثلاث مركبات كيمائية وهي: 1 - مادة Vasodilator التي تعمل على توسيع الأوعية الدموية، وتقوم مقام مادة أديانترا التي يتعاطاها مرضى القلب والذبحة الصدرية. 2 - مادة Hirudin، وهي مادة العلقين المانعة لتجلط الدم، والتي تباع في الصيدليات بأسعار باهظة. 3 - أنزيم Hyaluronidase الذي يعمل على زيادة نفاذية الجلد، ويقوم مقام الفادرين الذي يتعاطاه مرضى الذبحة الصدرية وأمراض القلب عامة. طبعا تفرز كل هذه المواد قبل أن تبدأ بمص الدم، وهذا ما يجعل المريض يتحسن فور وضعها على جسمه ، وبمجرد إفراز هذه المركبات الثلاثة ينطلق تيار من الدم عبر الخدش الذي أحدثته في الجلد، ويبدأ العلق في امتصاص الدم. جمعية ''إيماين نلخير'' تطالب بتحويل البركة إلى منتجع صحي طالبت جمعية إيماين نلخير المتواجدة ببلدية عين لقراج، على لسان رئيسها بوسيف مخلوف، في حديث ل ''الخبر''، بضرورة الحفاظ على هذا الكنز الطبيعي، وطالبت بتدخل عاجل لوزارة السياحة والبيئة، من أجل تحويل البحيرة الموسمية إلى منتجع سياحي للتطبيب، خاصة وأن العديد من دول العالم، منها أمريكا وألمانيا والهند، بدأت في استخدام هذه الديدان في علاج أمراض كثيرة، مثل أمراض القلب والالتهابات المفصلية والنقرس والصداع المزمن والتهاب الجيوب الأنفية. ووصف الكثير من الأطباء نتائج هذا العلاج بأنها مذهلة ولم تكن في الحسبان، خاصة وأن دودة العليق تحصي في لعابها 100 مادة حيوية تنتقل إلى جسد المريض خلال مصها لدمه، ما يحتم على السلطات الولائية بسطيف التفاتة عاجلة لهذه المنطقة، عبر شق طريق رئيسي للحمام الطبيعي، وتوفير بعض مستلزمات الراحة للوافدين إليه، في انتظار إعداد دراسة كاملة لتحويل المنطقة إلى منتجع طبي سياحي.