كان وراء هذا الكفر ما وراءه من الشرّ والانحطاط والشّقاق والخراب الّذي عمّ أرجاء الأرض... ويضيف الأستاذ الندوي قائلا: ''وبالجملة، لم تكن على ظهر الأرض أمّة صالحة المزاج، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة، ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرّحمة، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء''. ومن ثمّ، اقتضت رحمة الله بالبشرية إرسال رسول من عنده، يتلو صحفًا مطهّرة، فيها كُتب قيّمة. وما كان الّذين كفروا من المشركين ومن الّذين أوتوا الكتاب ليتحوّلوا عن ضلالهم إلى سواء السّبيل إلاّ بهذه الرسالة الجديدة الخاتمة، وبهذا الرّسول الكريم، صلّى الله عليه وسلّم، المبعوث رحمة للعالمين. ولمّا قرّر القرآن هذه الحقيقة في مطلع سورة البيّنة، عاد يقرّر أنّ أهل الكتاب خاصة لم يتفرّقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدّين أو تعقيد، إنّما هم تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بَغْيًا بينهم، ومن بعد ما جاءتهم البيّنة من دينهم على أيدي رسلهم عليهم الصّلاة والسّلام. وكان أوّل التّفريق والاختلاف ما وقع بين طوائف اليهود قبل بعثة سيّدنا عيسى عليه السّلام، فقد انقسموا شُعبًا وأحزابًا، مع أنّ رسولهم هو موسى، عليه السّلام، وكتابهم هو التوراة. فكانوا طوائف خمسة رئيسية، هي الصدوقيين والفريسيين والآسيين والغلاة والسمريين، ولكلّ طائفة سمة واتجاه. ثمّ كان التفرّق بين اليهود والنّصارى، على أن المسيح عيسى، عليه السّلام، هو أحد أنبياء بني إسرائيل وآخرهم، وقد جاء مصدّقًا لما بين يديه من التوراة. ومع هذا، فقد بلغ الخلاف والشّقاق بين اليهود والمسيحيين حدّ العداء العنيف والحقد الذميم، وحفظ التاريخ من المجازر بين الفريقين ما تقشعر له الأبدان.