طلب أحد كُتاب الأعمدة الصحفية العرب، قبل ثلاث سنوات، من الصحيفة التي يتعامل معها، والتي تصدر خارج المنطقة العربية، إلغاء التعليقات أسفل مقالاته التي تنشرها في طبعتها الإلكترونية! وقبلت الصحيفة المذكورة هذا الطلب عن مضض. لم أفهم في ذلك الوقت السبب الذي أدى بهذا الكاتب إلى تقديم هذا الطلب، ولا رضوخ الصحيفة لطلبه سوى الرغبة الملحة في تجاهل القارئ، والاستغناء عما أصبح يعرف، اليوم، بالذكاء الجماعي. فالكتابات عن التفاعلية في تلك السنوات كانت رائجة ومفرطة في تفاؤلها، حيث ذكرت، من جملة ما ذكرت، أنها تحوّل القارئ إلى طرف أساسي في إنتاج المادة الإعلامية، سواء بتعليقاته التي تكون، في بعض الأحيان، أهم من المادة الصحفية التي يعلق عليها، أو بملاحظاته النقدية التي تساعد الصحيفة على التخلص من أخطائها وتحرص أكثر على الدقة في كتابة أخبارها، أو باقتراحاته التي تجود بأفكار نيّرة لإثراء مواضيع الكتابة الصحفية، أو بالنقاش الفكري الرزين الذي حول بعض الصحف الإلكترونية إلى فضاء لتبادل الرأي والحجة. عاد الكاتب المذكور منذ أربعة أسابيع، على ما أعتقد، لشرح سبب طلبه السابق بالقول: (لم أكن أفكر أنه سيأتي يوم أسدّ فيه قنوات التواصل مع قرائي، لكن ''المليشيات الإعلامية'' اعتصمت في ساحة التعليقات التي أتاحتها الأنترنت للتعقيب على الأخبار والمقالات، أرغمتني على ذلك. كنت أنتظر أن يواجهني من يختلف معي في الرأي بالرأي والحُجّة، وليس بالقذف والسبّ والشتم، والنيل من سمعتي وسمعة عائلتي بالكذب والتدليس والافتراء). يعتقد البعض أن هذا الموقف ينمّ عن جزع مما آل إليه انتقال العراك السياسي في بعض الدول العربية إلى مواقع الصحف في شبكة الأنترنت. بيد أن الأمر أكبر من الجزع، لأنه يعبّر في جوهره عن غياب ثقافة الحوار. فمن يتصفح تعليقات القراء في المواقع الإخبارية والصحفية في شبكة الأنترنت، يندهش من شيئين أساسيين، أولهما خروج المعلقين عن موضوع المادة الصحفية المعلق عنها، مما ينمّ عن لهفة في التعبير تكشف عن حرمان سابق، فالمهم هو التعليق بصرف النظر عن الموضوع. وثانيهما شدّة العنف اللفظي المستخدم، وسهولة الاتهام وحتى التجريم، إلى درجة أن بعض المواقع الإلكترونية ألغت التعليقات لكثرة الكلام البذيء. وهنا، يمكن أن نتساءل عن معنى التفاعلية في بعض الصحف العربية المنشورة في شبكة الأنترنت التي طال الاحتفاء بها. البعض لا يتردّد في تبرئة ساحة القارئ، ليتهم الصحف ذاتها التي استبد بها الرأي الواحد، إلى درجة قيامها بإلغاء الرأي الآخر حتى في مجال حق الرد. وتحضرني، في هذا المقام، زيارتي لإحدى الصحف، منذ حوالي عقدين من الزمن، رفقة مجموعة من طلبة الإعلام لإطلاعهم على سير العمل بها. في طوافنا بأقسام التحرير، لفت شخص انكب على الكتابة في أحد المكاتب والرسائل الخطية تكاد تغمره نظر الطلبة، فسألوه عما يفعل، فرد عليهم بالقول: أقوم بانتقاء ما ينشر من رسائل القرّاء، وأصحح ما أنتقيه للنشر، وقد أعيد صياغة بعضه. ولمّا لاحظ الدهشة في عيون الطلبة، استطرد قائلا: (إنني أعيد كتابة بعض الرسائل فقط، حتى تتماشى مع الخط التحريري للجريدة)! هل تعتقد الصحيفة المذكورة أن بريد القرّاء يجب أن يحرّر بأسلوبها ويعبّر عن آرائها وليس رأي القارئ؟ الملاحظات ذاتها تنطبق على بقية وسائل الإعلام. ألم تلاحظوا أن بعض المتحاورين في بعض البرامج التلفزيونية العربية، لم يعودوا يكتفون بالسبّ والشتم والتجريح، فاستعملوا عضلاتهم في الأستوديو أمام النظارة؟ فلو افترضنا أن أحدهم دخل الأستوديو وبيده مسدس، فماذا سيفعل بمن يخالفه الرأي؟ إن التفاعلية لا تأتي من فراغ، ولا تنبتها التكنولوجيا. فالذي تربى على الأحادية في الفكر، وشبّ على شتم الآخر الذي يختلف معه في الرأي والتصوّر، سيشاب عليه، مهما اختلفت الوسائط التي يستعملها: جلود الحيوانات، القماش، الورق، شبكة الأنترنت، فلا تفاعلية دون إحداث قطيعة مع الممارسات الإعلامية السالفة. حتى لا يتهمنا البعض بالسذاجة، لأننا فصلنا وسائل الإعلام عن المجتمع، نتساءل عن معنى التفاعلية القائمة على الحوار والجدل في حقل الإعلام في مجتمع لم يتمكن، مع الأسف، من تحييد العنف لحلّ خلافاته، ولا يميّز بين المفاهيم التالية: العدو، والخصم، والمنافس، والغريم. إنه يدفع للانفعال، وربما أكثر، وليس التفاعل.