يروي الناقد السعودي عبد الله الغذامي، في كتابه الموسوم ''حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية''، عن شخص قدم إلى مكة، في السبعينيات من القرن الماضي، فتفاجأ برؤية مجلات مصرية نشرت صور كتاب أحياء لأنه اعتاد، في قريته، قراءة الكتب التي ألفها الأموات! وانبهر عندما بدأ قراءة صحيفة ''أم القرى'' لأنه قرأ أول سطر في عمود من اليمين وواصل قراءته باتجاه اليسار كلمة بعد أخرى. فلم يفهم المعنى. وتعجب من وجود فراغ بين الأعمدة لأن ما قرأه ليس شعرا. لقد أمضى وقتا غير قليل حتى عرف أن المقال يقرأ عموديا وليس أفقيا. وشعر أن مقالات الصحف مبتورة لأنه لم يعرف أين يجد بقيتها. ولاحظ أن أسلوب كتابة الصحف بسيط جدا ويختلف عن اللغة التراثية التي كانت تتطلب منه الحفظ. وبعد سنوات قلائل، أصبح هذا الشخص صحفيا في صحيفة الرائد، ثم انتقل لمجلة الجزيرة ليصبح مدير تحريرها! ماذا لو روى هذا الشخص سيرته المهنية بكل تفاصيلها؟ إنه يقدم خدمة جليلة لدارسي الصحافة وباحثيها. لست أدري لماذا يحجم الكثير من الصحافيين العرب عن ذكر تفاصيل تجاربهم المهنية عندما يطلب منهم الحديث عن الإعلام والصحافة؟ لقد أصْرَرْتُ على حضور محاضرة لأحد أساطين الصحافة العرب عن تطور الصحافة العربية. فبدأها بالإشارة إلى أن إصدار صحيفة في المنطقة العربية، في مطلع هذه الألفية، يعد أمرا أصعب من إصدارها في أثناء الحكم العثماني نظرا للعراقيل التي تضع في طريق كل مرشح لإصدارها! واختتم كلامه بالامتعاض مما آلت إليه مهنة الصحافة، لأن الأبواب فتحت لكل من هبّ ودبّ لإصدار جريدة! وطالب بضرورة تدخل السلطات العمومية للحد من إصدار الصحف! كانت خيبتي كبيرة في هذا الصحافي ليس للتناقض الذي وقع فيه فقط، بل لأنني كنت وما زلت حريصا على الاستماع لتجارب الصحافيين نظرا لما أجنيه من فوائد. لكن هذه ليست خيبتي الوحيدة مع الأسف. فقد ركبت الصعاب للوصول إلى منتدى الإعلام العربي المنعقد في دبي لأستمع لمداخلة أحد الصحافيين العرب البارزين، الذي يفضل أن يُقَدَم للناس كصاحب أول تجربة في الصحافة الإلكترونية العربية. فبدأ مداخلته بالتأكيد على مزايا الصحافة الإلكترونية (وكأنه كان يعتقد أن بعض الحضور يشك في ذلك)، واختتمها بتأبين الصحافة الورقية. وبين المقدمة والخاتمة رفع على مسامعنا قائمة بعناوين الصحف الأمريكية التي قضت نحبها، وتلك التي هاجرت إلى شبكة الانترنت. ولم يحدثنا قط عن تجربته وانتقاله من عالم الورق إلى الشاشة، أي كيف غيّرت الصحافة الإلكترونية نظرته لدور الصحافة؟ وكيف أثّرت في أسلوبه وفي بنية نصه الصحفي؟ وكيف بدلت علاقته بالقراء وبمصادر أخباره؟ وكيف أعاد تنظيم العمل الصحفي؟ وما هي آليات تأكده من صحة الأخبار التي ينشرها عبر وسيط إعلامي يصعب سباقه؟ لا يجب أن يستشف من كل ما ذكر أعلاه أن الصحف العربية خالية من رجالها الأكفاء الذين يجيدون الحديث عن تجاربهم الثرية. فربما حظي السيئ هو الذي قادني إلى بعض الصحافيين الذين تستضيفهم كليات الإعلام العربية للحديث عن تأثير التكنولوجيا على عملهم. فيشرعون في تقديم ''مواعظ مهنية'' أو ينصرفون للحديث عن الصحافة في الولاياتالمتحدةالأمريكية أو بريطانيا أو فرنسا، أي المعلومات التي يمكن لأي طالب في الصحافة الحصول عليها بفضل ''بركات'' الشيخ ''غوغل''. ونادرا ما يتحدثون عن ولوج التكنولوجيا في مؤسساتهم الإعلامية وتأثيرها على عملهم، والتي يستحيل العثور عليها في أي كتاب. قد يرى البعض أنني أخطأت العنوان لأنه كان عليّ قراءة ما دوّنه الصحافيون العرب عن تجاربهم الصحفية. ربما الأمر كذلك لأنني لم أطّلع على كل ما كتبه الصحافيون العرب عن ممارستهم للصحافة. لكن القليل مما قرأته لم يبدد خيبتي. فالكتاب المشهور ''بين الصحافة والسياسية'' لم يتطرق لتطور مهنة الصحافة في مصر، إلا بقدر ما سمح بالرد على ما اتهم به صاحبه أو لتصفية حساباته السياسية والمهنية. ومهما يكون الاختلاف حول تقييم هذا الكتاب، فإنه لم يجعل من ممارسة الصحافة موضع تفكير، على غرار ما ألّفه الكثير من الصحافيين، مثل الصحافي الفرنسي'' جون دانيال'' الذي غاص في تجربته ليشخص الفروق القائمة بين الصحافة الفرانكفونية والأنجلو-سكسونية، أو ما كتبه الصحافي'' بيار لندن'' الذي عكس مخاض ولادة الربورتاج الصحفي في فرنسا، ولا كتاب جوزيف بوليتزر الذي أصبح ما كتبه عن تجربته الصحافية مرجعا في الحديث عن ميلاد''الصحافة الصفراء'' في الولاياتالمتحدةالأمريكية. أخيرا، يمكن القول أن شهادات مثل هؤلاء المهنيين تجعل الصحافة موضوعا للتأريخ، بدل الاكتفاء بأن تكون أداة كتابته.