خلافا للاعتقاد السائد، تعتبر الواقعية في الأدب سليلة الإخفاق، ظهرت في فرنسا خلال القرن التاسع عشر، كرد فعل على خيبة الأمل التي برزت عقب إخفاق ثورة 1848، التي نتج عنها إبعاد الملك لويس فيليب واستيلاء نابليون بونابرت على السلطة سنة 1851، ما أدى إلى تنامي بورجوازية طفيلية ورجعية. وعلى المستوى الأدبي، كانت الرومانسية تجر أذيالها، بعد أن تركت الواقع وراحت تبحث عن الخلاص الكاذب. وقد مهّد بلزاك وستاندال وبروسبير ميرمييه، الأرضية الأدبية لبروز تيار الواقعية في الأدب، بينما بلغ الفن التشكيلي ذروته وتأثر الروائيون بفكرة نقل صورة الواقع بشكل موضوعي، فبرز تيار ''الصدق في الفن'' لترجمة الواقع الاجتماعي. ومن أبرز الروايات الواقعية التي ظهرت حينها، نجد رواية ''مدام بوفاري'' لفلوبير التي نشرت لأول مرة سنة 1856، واعتبرها النقاد بمثابة أول رواية واقعية، بفضل نزعتها الجريئة التي أرادت أن تحدث قطيعة مع الأدب الرومانسي، وجعلت من الكتابة الإبداعية تعبيرا عن الواقع. كتب فلوبير روايته لفضح الرومانسية، فمن يقرأ الرواية يعثر على سخريته من الكتب التي قرأتها ''إيما بوفاري''. والغرض هنا هو فضح نظام اجتماعي يبني صرحه على تمجيد العواطف من أجل امتيازات مفضوحة، وبشكل رجعي، رفض مسايرة الثورة وقيم المساواة والعدالة والحرية، بل أبدى ميولا للعودة إلى نظام إمبراطوري يجسده نابليون بونابرت. لقد أراد فلوبير أن يفضح مخاطر الحلم الذي يشوّه الواقع، وجاءت بطلة روايته ''إيما بوفاري'' للتعبير عن المثال المستحيل، وتنبأ بنهاية الرجعية، مع انتحار إيما بوفاري. لم يبدع فلوبير قصة الرواية من خياله، بل استقاها من خبر نشر على صفحات الجرائد، فأجرى تحقيقات شاملة في مجالات مختلفة، حتى يتمكن من الفهم العميق لشخصيات نقلتها الصحف وأعطاها مكانا في الأدب، فجمع أرشيفا خاصا، وقرأ كتب الطب، ولم يتردد في استشارة محام لتجنب الخطأ أثناء الكتابة عن الفوضى المالية التي وقعت فيها السيدة بوفاري، وهي تسعى لتحقيق رغبات عشيقها. وسعيا منه لبلوغ تجانس مثالي لنصه الروائي، كتب فلوبير كأنه طبيب ينظر إلى الواقع الذي يريد وصفه. فاعتمد على دقة الملاحظة والتصوير الخارجي. ومع التصوير الخارجي، نتعرف على أدق التفاصيل النفسية للشخصيات، كالحياء المرضي لشارل بوفاري، ونفسيته المعقدة. كما تبدو واقعية فلوبير من خلال لغة الحوار التي كتب بها، فهي عبارة عن لغة تختلف من شخصية إلى أخرى، حسب الفئة الاجتماعية التي تنتمي إليها. تخلّى فلوبير عن الهرطقة الأخلاقية التي ميزت الرواية الرومانسية، ورفض الدفاع عن أي قضية، فالقارئ هو الوحيد القادر على استخلاص الدرس. إن إيما بوفاري بطلة معادية للرومانسية، وقصتها هي قصة انحطاط محزن وداع للرثاء، لكن ''مدام بوفاري'' تحتوي على بعض التوابل الرومانسية. قال ''إن مدام بوفاري هي أنا''.. لماذا؟ ربما لكي ينبه القارئ إلى أهمية ومكانة الكاتب في إبداعه. ورغم كل ما قيل من أن رواية ''مدام بوفاري'' عبارة عن رواية واقعية، رفض غي دي موباسان أن يقدمها كذلك. وأورد في كتابه النقدي ''حول الرواية'' وبالضبط في الجزء الثالث الخاص بفلوبير، إن هذا الأخير ليس كاتبا واقعيا، وإنه من الخطأ، بل من الحماقة اعتبار ''مدام بوفاري'' رواية واقعية. فالكاتب الواقعي، حسب موباسان، يكتفي بنقل الواقع دون إدراك بتأثيراته، فالواقعية من أجل الواقعية لا تعني شيئا. ومن هذه الزاوية، يعتقد موباسان أن فلوبير أكثر قوة من بلزاك، فهذا الأخير لا يملك القدرة على ''إعطاء أفكاره قيمتها عبر الكلمات والموسيقى''، أما فلوبير، فهو بالعكس يملك لغة ممتعة.