العشرية السوداء ضربت الحركة المسرحية في الصميم برج الكيفان كان معهدا بأتمّ معنى الكلمة لا يمكن أن تبق محايدا وأنت تلتقي وجها مسرحيا شارك عمالقة الركح الجزائري أجمل أيامه، وعاش أجمل فتراته، وعايش تألّقه، بل ساهم فيه بكلّ ما أخذه وتعلّمه من مصطفى كاتب، عبد القادر علولة، وصيراط بومدين وغيرهم.. السعيد زنير أحد هذه الوجوه المسرحية التي برؤيتها نحسّ بذلك الحنين إلى تلك الفترة المشرقة من تاريخ خشبتنا، وفي الوقت نفسه بالألم، لما آل إليه اليوم أبو الفنون والجزائر تحتفل بخمسينية استقلالها. المسرح الهاوي كثيرا ما يكشف عن مستوى يفوق المسرح المحترف يُعدُّ السعيد زنير واحدا من الذين تخرجوا من المعهد الوطني للفنون الدرامية لبرج الكيفان، أشرف عليه المرحوم المسرحي الكبير مصطفى كاتب، وقام فيه بتكوين أرمدة من الفنانين والفنانات، من بينهم صونيا، قابوش العيد، محسن عمار، مرير جمال، علاوة بوجادي، وكل هؤلاء شاركوا زنير أيامه الأولى. التقت به ''الخبر'' لتقلب معه ذكريات الزمن الجميل على خشبة المسرح وتضع الأصبع على الجرح فيما آل إليه اليوم. من بائع كتب إلى طالب في معهد برج الكيفان لم يكن المسرحي السعيد زنير يحلم يوما بأن يكون ممثّلا مسرحيا، يحمل هموم المجتمع لطرحها على الخشبة ويتفاعل معها ويندمج فيها، إذ كان مجرّد بائع في مكتبة الجيل الجديد، لكنه مثل كل جيله السبعيني كان مولعا بالمجلات التي تأتي من المشرق، وبالضبط من مصر، منها مجلات ''المصوّر''، ''آخر ساعة'' وأكثرها مجلة ''النجوم''، التي كانت تهتم بالمسرح ورجالاته. يقول السعيد زنير: ''كنت اطّلع على هذه المجلات والتهمها، لكن أيضا هناك مجلاّت السينما، التي كانت مختصة في أفلام معيّنة، ولم أكن أدري أن هناك معهدا للتكوين في المجال المسرحي''. ويضيف السعيد زنير، وهو يقلّب شريط ذكرياته: ''كان لي زميل اسمه عاشور مولود، دكتور في العلوم الدقيقة، وكان أول من وصفني بالفنان. ذات يوم ذهبنا إلى سينما إفريقيا وقبل الفيلم. عُرض، على الشاشة، إعلان من معهد الفنون الدرامية بالجزائر العاصمة عن مسابقة، والإعلان نفسه نشرته جريدة ''النصر''، التي كانت تصدر باللغة الفرنسية آنذاك. ومن حسن حظ السعيد زنير أن له هذا الصديق، الذي حثّه على المشاركة بتحضير نفسه والدخول إلى المعهد، ويعلّق مبتسما، وهو يتذكّر نجاحه: ''كان امتحان المسابقة بمدينة قسنطينة وكنت من بين الناجحين''. تحسّر على معهد برج الكيفان يسترسل المسرحي السعيد زنير في ذكرياته وبداياته مع المعهد والمسرح، خاصة لقاءه مع عملاق المسرح مصطفى كاتب: ''كان في برج الكيفان امتحان ثان أشرف عليه أساتذة في علم النفس وكذا الرياضة، ودام لمدة أسبوع كامل، وهو الامتحان الرسمي لدخول المعهد. وكان مدير المعهد آنذاك الممثّل القدير مصطفى كاتب، الذي كانت بحوزته قوائم الناجحين وغير المحظوظين أيضا، وكنت ضمن الفوج الناجح. وفي تلك الفترة كان المعهد يسمى بالمعهد الوطني للفنون الدرامية والرقص، وكان يشرف عليه أساتذة كبار من الجزائر ومن خارجها، من بينهم ساعد ارتش، كرم اوطاوة، فيرد فرج، والسيدة سانطوس جاربو فانكري''. يتذكّر زنير المعهد ونبرة الحسرة والألم تعصره ويعلّق قائلا: ''وفي تلك الفترة، أي سنة 9691، كان معهدا بأتمّ معنى الكلمة''، حيث يشير إلى مبدأ التكوين، الذي كانت الجزائر تعتمده مع طلبتها في كل الاختصاصات وخاصة الفنية، ويواصل الحديث عن فترة الدراسة المشرقة: ''وبعد التخرّج كان المرحوم مصطفى كاتب يفكّر في إرسالنا إلى الخارج لمواصلة التكوين، وهناك من اختار فرنسا وإيطاليا، وهناك من فضّل سوريا ومصر، ومن بينهم المتحدّث. وكنا ندرس ونتكوّن في مجال الإخراج والسينوغرافيا، لكن تخصّصنا الحقيقي هو التكوين في التمثيل''. وهران احتضنتني والتقيت فيها بعمالقة الركح لم تكن حياة الممثّل زنير كلّها مفروشة بالورود، فبمجرّد انتهاء الحياة الدراسية وجد نفسه أمام واقع الحياة العملية، الذي لا يرحم، وعند هذه المحطة يتوقّف محدّثنا: ''بعد أربع سنوات من التكوين، اصطدمنا بجملة من الصعوبات في العمل، خاصة في المسرح الوطني. وقد عملت بنصيحة علاوة بوجادي الصحفي بالإذاعة، وكان معنا في المعهد، حيث قال لي ''لو تعود إلى سكيكدة سوف تصبح خضارا''، وأكّد عليّ أن أبذل الجهد من أجل العمل في الاختصاص، إذا كنت أحترم المسرح الذي تكوّنت من أجله.. لم يذهب كلام علاوة هباء منثورا، فقد فعل فعلته في نفسية زنير، الذي يقول: ''كلام علاوة شجّعني على السفر إلى مدينة الباهية وهران، وهناك استُقبلت من قِبل المرحوم عبد القادر علولة. وقد وجدت كل من قابوش العيد ومخلوف بوكروح وبرجي فتحي، ورغم الصعوبات المالية التي كان يعاني منها علولة، إلا أنه استقبلنا وقام بتوظيفنا في المسرح الجهوي لمدينة وهران، وبقيت هناك لمدة خمس سنوات ونصف، وشاركت في خمس مسرحيات ''حمام ربي''، ''المنتوج''، ''الرهان''، ''المائدة'' التي مرت في التلفزة، ''حب الملوك''، ''في طريق الحرب'' من إخراج المرحوم عبد الرحمان ولد كاكي، وهذه اعتبرها تجربة لا تمحى من الذاكرة''. ولا ينسى زنير فضل مدينة الباهية عليه، إذ يعتبر أن مسرح وهران مدرسة ثانية بالنسبة له، خاصة وأنه مثّل إلى جانب العملاق المرحوم صيراط بومدين، الذي لم ينل حقّه إعلاميا، ورغم أنه كان أكاديميا إلا أنه محظوظ بالالتقاء بعمالقة الركح، كما استفاد من تجربة محمد أدار وحيمور. مسرح سكيكدة وحلم ال30 سنة كانت المغامرة في مدينة وهران قصيرة، وكان على الطير أن يعود إلى عشّه. يقول السعيد زنير حول ظروف عودته إلى مسقط رأسه سكيكدة: ''اتّصل بي سنة 9791 مسؤولو بلدية سكيكدة، طالبين منّي العودة إلى سكيكدة لتنشيط الحركة المسرحية، حيث قرّروا فتح المسرح البلدي. وقبل هذا الاتّصال كان اختياري يحوم بين العمل في قسنطينة أو عنابة، ولم أفكّر يوما في سكيكدة، لكن العائلة اضطرتني، وألحّت على العودة إلى سكيكدة، وما وجدت أمامي سوى أن غامرت. لم يكن زنير وحيدا في مغامرته، بل سانده ووقف إلى جانبه آنذاك، كما يقول الأخ محمد بوتبان، مدير المسرح البلدي، الذي أُسند له منصب مدير فني، وحول هذه المهمّة الفنية الجديدة يقول زنير: ''سجّلنا انطلاقة رائعة رغم أنه مسرح بلدي، لكن حبّنا للركح كان الدافع الرئيسي لهذه الانطلاقة الرائعة، وكان التمثيل صعبا. والممثّل، طوال الأسبوع، يفكّر في الدور الذي سيؤدّيه أمام الجمهور، الذي كان يتوافد بكثرة على المسرح''. ولم يكن يقتصر عمل المتحدّث على الإشراف الفني، بل المبادرة في ترقية المسرح، حيث يضيف: ''أعطينا اهتماما كبيرا لمسرح الأطفال، وحتى في المدارس وكانت سنوات رائعة''. وككلّ مغامرة جديدة وجهد جديد لا يخلو من العوائق والمطبّات والمشاكل، يعترف السعيد زنير: ''وقعنا في سكيكدة في مشكلة كبيرة، فالبلدية عجزت عن تخصيص ميزانية للمسرح لغياب بند لذلك، وما كانت تقدّمه عبارة عن منحة رمزية تشمل جميع المصاريف، وكان هذا عائقا أمام الإنتاج، ورغم هذا كونّا مدرسة لمسرح الطفل ونظّمنا مهرجانا وطنيا، بالإضافة إلى التبادل مع مدينة جندوبة بتونس، وشاركنا في مهرجان الحمامات الدولي بمسرحية ''عشنا وشفنا''، ولقيت صدى كبيرا وسط المشاركين في المهرجان. وحتى وزارة الثقافة آنذاك برمجت لنا جولة عبر الوطن بتلك المسرحية''. ليضيف: ''يفرض عليك حب العمل أن تحلم بما هو أبعد وأرقى وأحسن''. ولا يختلف زنير عن هؤلاء الحالمين، حتى وإن كانت أحلامه بسيطة، كأن يرتقي مسرح بلدية سكيكدة إلى مسرح جهوي، حلم راوده منذ سنة 1979، ورغم بساطته إلا أنه لم يتحقّق إلا بعد 30 سنة، أي سنة 2009. العشرية السوداء ضربت الحركة المسرحية لم يسلم المسرح، كأي حركة ثقافية وفنية، من زوبعة العشرية السوداء، يقول السعيد زنير بكل حسرة حول هذه النقطة: ''وبعد هذه الأعمال التي قُدّمت في إطار مسرح بلدي هاو، والشهرة التي تحصّل عليها، غير أن النكسة كانت تنتظرنا في المنعطف. فقد أدّت الظروف التي مرّت بها الجزائر ككلّ، إلى ضرب الحركة المسرحية. وحتى العروض التي كانت تبرمج، كثيرا ما تُلغى لغياب الجمهور، الذي أصبح لا يحضرها بسبب حالة اللاأمن والخوف، جراء ما حدث آنذاك، فيما سُمّي بالعشرية السوداء''، مضيفا ''كما إن بناية المسرح قد تعرّضت إلى تصدّعات وتسرّب مياه الأمطار، وكادت أن تنهار على رؤوس العمال والممثّلين. وفي هذه المحنة غاب عنا الجميع، بمن فيهم الصحافة إلا جريدة ''الخبر''، التي ساهمت بمقال تحت عنوان ''المسرح في انهيار'' حرّك السلطات المحلية، ومازلنا نحتفظ به، وبعد ذلك أُدخلت عليه ترميمات، والحمد للّه لقد أُنقذ من الانهيار واسترجع نشاطه''. صونيا دفعت عجلة المسرح بقوة نحاول أن نخرج الأستاذ زنير من حالة الغوص في الذاكرة والذكريات بحلوها ومرّها، لنفتح أمامه أبواب الحاضر، ونسأله عن مسرح سكيكدة حاليا، فيقول، بكثير من التفاؤل: ''من دون مجاملة ولا مبالغة، كان تعيين الممثّلة القديرة صونيا على رأس إدارة المسرح الجهوي صائبا، فقد حرّكت دواليب العربة، وتمّ إنجاز عدّة أعمال نالت عدّة جوائز في المهرجانات الوطنية. كما إنها رقّت الممثّلين الذين تحسّن مستواهم الفني، بالإضافة إلى فتح أبواب المسرح أسبوعيا، وهذا من خلال برمجة عديد العروض المسرحية للمسارح الجهوية الأخرى. كما تمّ تنظيم أكثر من جولة عبر مختلف ولايات الوطن، بمسرحيات جديدة أُنجزت من طرف المسرح الجهوي''. وختامها تفاؤل بالموهبة وأمل في الجنس اللطيف ويختم المسرحي القدير لقاءنا معه بالحديث عن الإبداع الصرف، عن الهواية وصقلها، فيقرّ أنه ''بعد التجربة البسيطة في المسرح، استنتجت أن المسرح الهاوي في الكثير من الأحيان يكشف عن مستوى عال يفوق المسرح المحترف، بالرغم من أن المسرح، حاليا، أصبح يعتمد على المال والربح. ونقول هذا من خلال العروض التي تقدّم في المهرجانات، والتي أغلبها مكرّر وخالٍ من التعبير الجسماني وضعيف إخراجا وتحكّما في الإنارة، وحتى في الأداء من قِبل الممثّلين. ورغم هذا يتمّ المسرحي كلامه بنبرة من التفاؤل والأمل ''يمكن القول بأن هناك تفاؤلا بالرفع من مستوى المسرح الجزائري، خاصة من خلال العودة القوية للعنصر النسوي، الذي أصبح عدده، تقريبا، يفوق عدد الرجال في العروض المسرحية وهذا شيء يشرّف''.