انتهت حادثة الاعتداء الإرهابي على المركّب الغازي وقاعدة الحياة في تيفنتورين، بعين أمناس، بتحرير عشرات الرهائن والقضاء على عدد من الإرهابيين، وللأسف مقتل عدد ممن كانوا محتجزين لدى المجموعة الإرهابية. ''الخبر'' التي كانت الأولى في عين المكان، ونقلت الأحداث أولا بأول، وتعود اليوم من الرحلة ببعض المحطّات التي استوقفتنا هناك عدّة أيام. خرجنا بانطباع مهمّ عندما عدنا من عين أمناس، بعد أن كنا شاهدين على التدخّل العسكري الذي تمّ من أجل إنقاذ مئات الرهائن، وهو الإحساس بمدى فاعلية العسكريين ورجال الدرك، الذين أبدوا استعدادا كاملا للتضحية بالحياة من أجل وطنهم. شبابٌ بعضهم لا يتعدّى سنّه 20 سنة كانوا على استعداد للموت في سبيل وطنهم، وفي سبيل التصدّي لهذه البربرية التي تتغطّى بشعارات دينية. أثناء تجوّلنا في عين أمناس حاولنا تصوير حافلة كانت تنقل عدداً من الرهائن الأوائل الذين تمّ الإفراج عنهم، وقد رصدنا عناصر من المخابرات كانوا ينتشرون في المدينة، فأبلغوا القائد المحلّي للدرك الوطني، الذي أرسل وحدة من الدرك كانت تستقل سيارة مدنية للبحث عنّا، وبعد دقائق أوقفتني سيارة رباعية الدفع، وخرج منها عناصر الدرك المسلّحين الذين كانوا في حال يقظة شديدة وغضب، وفتّشوني وكانوا على استعداد لإطلاق النار، لو أنّني تجاهلت الأمر الأول، وبعد أن أظهرت لهم بطاقة الصحفي نقلوني على متن سيارة إلى ثكنة عسكرية، وقد استقبلني ضابط سامٍ في الدرك الوطني، وشرح لي الصعوبات التي يواجهها أعوان الدولة في هذه الظروف، وطلب منّي توخّي الحذر. كانت الساعة السادسة من مساء يوم 16 جانفي 2013، قرب مستشفى عين أمناس، أو ما يسمّى فرع الصحة الجوارية المحلّي. وقف العشرات من الناس قرب المستشفى في انتظار أيّ خبر عن مصير أقاربهم المحتجزين في تيفنتورين، حيث واجههم عناصر الشرطة الذين صدرت إليهم الأوامر بمنع أيّ شخص من الدخول.. الأعصاب كانت مشدودة. وفي تلك الأثناء اقترب منّي شاب في العشرينات من العمر، وسألني عن شقيقه الذي مازال محتجزا داخل المركّب الغازي مع مئات الجزائريين.. كان في حالة نفسية سيئة، خاصة مع ورود معلومات حول سقوط قتلى في الاشتباكات التي وقعت بين القوات الخاصة للجيش والجماعة الإرهابية. وقال جمال: ''اتّصل بي شقيقي سفيان على الساعة التاسعة يوم 15 جانفي، وقال لي إنّهم محتجزون من قِبل جماعة إرهابية، وقال إنّ بعض المسلّحين كان ملثّما. بعدها حاولت الاتّصال به، لكنه امتنع عن الحديث، ثمّ أُرغم على إقفال هاتفه''. كان جمال في حالة نفسية منهارة وهو يحاول طمأنة والدته، التي كانت تكلّمه من ولاية ورفلة. بعد أقلّ من ساعتين التقيت سفيان مجدّدا، وكان في وضع آخر مختلف، حيث لم تغادر الابتسامة وجهه، وكان يحتضن شقيقه الذي حرّره الجيش قبل دقائق، ونقله من تيفنتورين إلى وسط مدينة عين أمناس. قنّاص الجيش الذي أثار الرعب وسط الإرهابيين في تيفنتورين كان يظهر ثم يختفي على متن مروحية روسية، يجلس بكلّ هدوء ويراقب الأهداف على الأرض، تمكّن بمفرده من القضاء على 4 إرهابيين، وقد أثار الرعب وسطهم لدرجة أنّهم حاولوا إسقاط المروحية التي كانت تحمله عدّة مرات دون جدوى. يعدّ قنّاص تيفنتورين، الذي تحدّث عنه بعض الرهائن الأجانب بإعجاب شديد، بطل عملية تيفنتورين بلا منازع، حيث أنه تمكّن، بمفرده، من القضاء على أربعة من قادة الجماعة الإرهابية، وكانت الرصاصة التي أطلقها يوم الخميس فرصة ذهبية للعشرات من الجزائريين للفرار. المثير في موضوع هذا القنّاص، الذي ينتمي لوحدة ''جيس''، مجموعة التدخّل الخاصة التابعة للاستعلامات والأمن، أنه كان يصيب أهدافه بدقّة، وهي أجسام الإرهابيين. وقد أصاب اثنين منهم في الرأس، رغم أنه كان يركب مروحية روسية لا يمكنها الثبات في الجوّ، ولا تسمح له بالتسديد الدقيق، رغم هذا أصاب 4 أهداف، وأرغم الإرهابيين على الاختفاء داخل إحدى ورشات المركّب الغازي. حاولنا الاستفسار عنه، لكن بلا جدوى، وقد تفهّمنا السبب وراء إخفاء هويّته الحقيقية. بل إنّ قادة العملية العسكرية في تيفنتورين أخفوا هويّته حتى عن بعض صغار القادة في الجيش والدرك. بلمختار برع في التخلّص من خصومه في العمليات الإرهابية يقول متابعون للشأن الأمني إن عميلة تيفنتورين لا يمكن تصنيفها إلا في خانة الهزيمة العسكرية التي تمّ إلحاقها بجماعات الإرهابية في شمال مالي، حيث قرّر المخطّطون للعملية المغامرة بأفضل العناصر الإرهابية وأرسلوهم للموت. أعاد احتجاز عشرات الرهائن الغربيين في مصنع إنتاج الغاز في تيفنتورين، واقتحام قوات الجيش للمركّب الغازي وتحرير الرهائن بالقوّة، الجزائريين إلى مشاهد لم يشاهدوها منذ أكثر من 31 سنة. وفقدت كتيبة ''الملثّمون''، التي يُقال إنّ الإرهابي مختار بلمختار يقودها، ما لا يقل عن 92 من أبرز وأهمّ عناصرها، وأكثرهم قدرة على تنفيذ العمليات الإرهابية، في عملية واحدة. وقد وصف أحد العسكريين الذين شاركوا في عملية تيفنتورين الوضعية بأن المصنع وقاعدة الحياة تحوّلا إلى مقبرة لكتيبة ''الموقّعون بالدم''. وأضاف إن مثل هذا العدد من القتلى وسط الجماعات الإرهابية لم يسجّل منذ سنوات طويلة، و''كان يجب علينا أن نقدّم التحية لمن أرسل لنا كل هذا العدد وقدّمهم لنا على طبق''. وفي قوانين حرب العصابات، فإن خوض المعارك الكبيرة المكشوفة ضدّ الجيوش النظامية لا يجب أن يتمّ أبدا، لأن في ذلك تضحية بالمسلّحين دون تحقيق هدف مهمّ، وقد خالف قائد هذه العملية قوانين الحرب. ويقول هنا قائد عسكري، رفض كشف هويّته، ''لنفرض أن الجزائر قرّرت شنّ عملية عسكرية كبرى لمطاردة جماعة بلمختار في شمال مالي، سنحتاج للتضحية بأكثر من 100 جندي لتحقيق هدف القضاء على 30 أو 40 إرهابيا، بالإضافة إلى حشود عسكرية وتكاليف مالية لا يمكن تحمّلها. لكن كلّ هذا الجهد وفّره علينا بلمختار، عندما أرسل مسلّحيه لكي يموتوا في عين أمناس''. وتوقّع متابعون للشأن الأمني في الساحل أن يتمرّد عناصر وقادة في كتيبة ''الملثّمون'' على بلمختار، الذي أثبت رعونة كبيرة في التخطيط لمثل هذه العملية، التي لا تفسَّر إلا بأحد أمرين: إما أن بلمختار أصابه الغرور لدرجة توقّع معها تنفيذ مثل هذا الهجوم وسحب الجماعة المهاجمة، مع عدد من الرهائن، دون أن تنال منهم قوات الجيش، أو أنّه قرّر التخلّص من ''بن شنب''، الذي ينحدر من ولاية ورفلة ولديه أقارب كثيرون في مسقط رأس بلمختار في غرداية من عشيرته نفسها، ومعه مجموعة من الإرهابيين غير المرغوب فيهم في عملية واحدة. ويُعتقد بأن لمين بن شنب أثار غضب بلمختار، الذي برع، منذ التسعينيات، في التخلّص من الإرهابيين من أبناء مدينته أو منطقته، وكان آخرهم بن شنب، وقبله غريقة إبراهيم، الذي قُتل في الاعتداء على ثكنة المغيطي شمال موريتانيا. أساءوا تقدير جاهزية الجيش في عين أمناس كان المخطّط الأصلي لعملية تيفنتورين، حسب مصادر أمنية تابعت العملية منذ البداية، هو تدمير أجزاء من المصنع، واختطاف 20 أو 30 من الرعايا الأجانب العاملين في الشركة، ثمّ التنقّل قبل تعبئة القوات الجوّية الجزائرية، على مسافة تقل عن 100 كلم نحو الحدود الجزائرية الليبية، ومن ليبيا يمكن للمجموعة الفرار نحو مالي عبر صحراء النيجر. واعتقد الإرهابيون، حسب الخبرة التي اكتسبوها أثناء المعارك مع الجيش الوطني الشعبي، أن وصول القوّات الجوية، للمشاركة في العمليات القتالية ضدّ الإرهابيين، يحتاج لما لا يقلّ عن ساعتين إلى 3 ساعات. وهو وقت اعتقد الإرهابيون أنه كافٍ للوصول إلى الأراضي الليبية، التي تبعد عن تيفنتورين بنحو 051 كلم من المسالك الصحراوية، لكن قائد الجماعة الإرهابية الذي خطّط للعملية تجاهل عدّة معطيات، أهمّها يقظة وحدة المواكبة التابعة للدرك، التي تمكّنت من تعطيل انسحاب المجموعة الإرهابية من موقع الاشتباك الأول الذي استهدف حافلة كانت تقلّ عمالا أجانب طيلة أكثر من 02 دقيقة، وكذا مشاركة عناصر من وحدة الجيش المكلّفة بحماية مصنع تيفنتورين في الاشتباك الثاني، بعد اقتحام المصنع بدقائق، وهو ما أدّى إلى تعطيل عملية جمع الرهائن الأجانب. ثم جاء تدخّل قوة عسكرية من ثكنة تقع في المنطقة الصناعية لعين أمناس، ويبعد مقرها عن تيفنتورين ب53 كلم، وأدّت هذه الظروف إلى إطباق حصار حول المصنع وفقدان الأمل لدى الإرهابيين في الفرار. ويعتقد خبراء في الأمن والشؤون العسكرية بأن الإرهابيين أساءوا تقدير مدى جاهزية الوحدات العسكرية الموجودة في المنطقة، رغم أنهم اختاروا هدفا يبدو الأضعف، حيث يقع مصنع تيفنتورين في مكان معزل تماما عن باقي قواعد وحقول الغاز بعين أمناس. مختار بلمختار.. من تلميذ فاشل إلى أحد أهمّ المطلوبين للدول الغربية برز اسم مختار بلمختار، أو الأعور، أو خالد أبو العباس، إلى واجهة الأحداث بعد الهجوم الدموي في تيفنتورين، وبات اليوم المطلوب الأول لعدد من الدول الغربية بتهم ثقيلة. قال أحد رفقاء الإرهابي بلمختار، وهو تائب غادر معسكرات الجماعة السلفية للدعوة والقتال، عام 2002، من مدينة غرداية: ''ما يميّز بلمختار عن غيره من أمراء التنظيم المسلّح، الذين عرفتهم، أمران اثنان: الأول هو العقلية التآمرية التي يملكها وقدرته الفائقة على إزالة خصومه في الصحراء، والثاني هو أنه لا يتراجع عن إراقة الدماء''. وهذا الوصف يبدو مطابقا لشخصية بلمختار، الذي تمكّن من النجاة من الموت أكثر من 03 مرة أثناء مطاردة الجيش ومصالح الأمن الجزائرية له. بدايتان قُدّر لبلمختار أن يكون مؤسّس النشاط المسلّح في منطقة الساحل الإفريقي، في منطقة بوتركفين جنوبي مدينة الأغواط. وفي نهاية سبتمبر 1995، نصب إرهابيون من الجماعة الإسلامية المسلّحة حاجزا مزيّفا على الطريق، حيث في مساء ذلك اليوم، توقّفت حافلة قادمة من الجزائر العاصمة ومعها عدة سيارات أجرة، وبعد أقلّ من 40 دقيقة من توقيف الحافلة والسيارات أكملت المجموعة الإرهابية تقتيل المواطنين العزل، وكانت النتيجة مقتل 50 شخصا، بعضهم ذُبح بدم بارد، بينما أُعدم الباقون رميا بالرصاص. ووُجّهت، حينذاك، أصابع الاتّهام ل''كتيبة الصحراء''، ضمن الجماعة الإسلامية المسلّحة، بقيادة أميرها آنذاك المدعو عبد القادر بن عبد النبي. لم يدرك صانعو ذلك الحدث، في ذلك اليوم الدموي، بأنهم، من حيث لا يدرون، وقّعوا شهادة ميلاد أمير الصحراء الجديد، الإرهابي بلمختار مختار. فبعد ساعات من تنفيذ المجزرة التي راح ضحيتها 50 شخصا، أغلبهم من غرداية، قرّر قائد الناحية العسكرية الرابعة، آنذاك، العميد سعيدي فضيل، ملاحقة الإرهابيين والقضاء عليهم، وسخّرت قيادة الجيش لهذه العملية كتيبتي صاعقة من القوات الخاصة، الكتيبة 98 والكتيبة 12 قوات خاصة، ومعهما قوّات جوّية كبيرة، واستمرت مطاردة ''كتيبة الصحراء''، في ذلك الحين، 7 أسابيع، ثمّ وقع الإرهابيون في فخّ الجيش، في منطقة بريزينة بين ولايتي غرداية والبيّض، بداية ديسمبر من ذلك العام، حيث تمكّن الجيش من القضاء على 16 إرهابيا، أغلبهم من مدينة غرداية. وكان من بين القتلى الأمير عبد القادر بن عبد النبي، وتمكّن 30 إرهابيا، في ذلك اليوم، من الفرار. وكان من بين الناجين شخص مغمور، قدِم قبل 3 سنوات من أفغانستان، يُدعى بلمختار مختار، وكان، في ذلك الحين، يكنّى ''الأعور''. في ذلك اليوم وُلد أمير الصحراء، الذي نجا، فيما بعد، في أكثر من 20 مناسبة من الموت، وفي عدّة مرات من محاولات اغتيال قامت بها مخابرات أجنبية، وكذا زملاؤه في الجماعة الإسلامية المسلّحة. بعد هذه الحادثة ب10 سنوات تقريبا، تحوّل بلمختار الإرهابي إلى أسطورة حوّلت الكثير من القصص إلى واقع، ونُسبت له أعمال لا علاقة له بها. لكن الأهمّ هنا هو أن سيرة الإرهابي بلمختار تختصر كل قصّة النشاط الإرهابي في الجنوب الجزائري ودول الساحل الإفريقي. فالرجل يعدّ أول من تمكّن من البقاء على قيد الحياة كأمير مسؤول من الجماعة الإسلامية المسلّحة، ثمّ الجماعة السلفية للدعوة والقتال، على مدار 12 سنة على الأقل، ثم إنّه من وضع التكتيكات القتالية المعتمدة، حاليا، من قِبل الإرهابيين في حرب الصحراء التي خاضوها، تحت إمارته وإمارة عبد الرزاق البارا وعبد الحميد السوفي ويحي جوادي. استفاد بلمختار، أو خالد أبو العباس، عند تنصيبه على رأس ''كتيبة الصحراء''، التي سمّيت فيما بعد بكتيبة ''الملثّمون''، من خبرة المهرّبين في الجنوب الجزائري، ووظّفها في نشاطه الإرهابي، ثمّ طوّرها، وتنقّل، على مدار 12 سنة، عبر الحدود الدولية الفاصلة بين 5 دول،هي الجزائر، موريتانيا، مالي، النيجر وتشاد، وتمكّن بهذه الطريقة من تضليل الأجهزة الأمنية التي لاحقته باستمرار، ونسج علاقات قوية مع المهرّبين وزعماء العصابات المسلّحة في كلّ هذه الدول دون استثناء، وكان شديد الذكاء في تعامله مع الواقع السائد في دول الساحل، حيث لم يبادر أبدا لمنع أيّ شيء يناقض التوجّه السلفي الجهادي للجماعة الإسلامية المسلّحة ثمّ للجماعة السلفية، والغريب أن هذا يتناقض، تماما، مع سلوك باقي أمراء ''الجيا''. ففي هذه المناطق ينتشر السحرة والدجّالون، وتنتشر الآفات المختلفة وتعدّ الطُرقية والزوايا مقدّسة لدى الكثير من قبائل البدو الرحّل، من توارف وعرب وزنوج. ورغم هذا، فإن أمير كتيبة ''الملثّمون''، الذي كان يتحرّك، باستمرار، في هذه المناطق لم ينكر أيّا من هذه التصرّفات وغيرها، بل على العكس يُعتقد بأنه وفّر الحماية المسلّحة لقوافل مهرّبي السجائر، التي تعدّ محرّمة في الدين الإسلامي، وكذا المخدّرات وكلّ شيء ممنوع. هذا السلوك البراغماتي ساهم في إطالة عمر أمير ''كتيبة الصحراء''، وحافظ على جماعته التي تحوّلت، فيما بعد، إلى أهم مصادر تموين الجماعة السلفية للدعوة والقتال بالمال والسلاح.