من السهل أن يحدث اتفاق على أن الساحة السياسية تفتقر للسياسيين، وتفتقر للقادة، وتفتقر أكثر من هذا كله لمن ينتجون الأفكار والبرامج، ولمن يتولون صياغة مطالب الناس والدفاع عنها. الساحة تزخز بمحبي ''ثقافة التبرير''، وبالمتملقين للمسؤول في كل المستويات. وهؤلاء كانوا، وما زالوا، وبالا على الدولة، وعلى مؤسساتها، وعلى المجتمع وقدراته. من بين ما دفعني لهذا الاستنتاج المتشدّد نوعا ما، هو من يمكن أن نصفهم أنهم ''النجوم'' التي أطفأت الساحة السياسية. هذه ''النجوم'' تأخذ ضوءها من مصدر واحد. ولهذا، فأحد شروط التغيير والإصلاح حجب ''الشمس'' عن هذه ''النجوم''، حتى تظهر ظلاميتها. إنها كيانات مستفيدة من السلطة، ومن الدولة، ولا تقدم لها إلا خدمة واحدة: الولاء. الظلامية السياسية هي السائدة اليوم. ولا يهمني أن أسمي هنا من هم ممثلو هذه الظلامية. فهم معروفون، وهم ليسوا من تيار واحد فقط، ويجمعهم شيء أساسي، إنه ''احتلال الهويات''. لأنهم لا يعبّرون، في الغالب، عن أي فكرة معرفية أو رؤية سياسية، وأقل من ذلك مشروع مجتمع. عندما تسمع وزيرا أو زعيم حزب يصرّ أن يقحم ''فخامة الرئيس'' في كل تصريح، تدرك أنه يتملق، أو يغطي فشله أو قصوره أو تقصيره. وعندما تسمع الكثير من المتملقين بطريقة فجة، ومنهم وجوه انطفأت في الفترة الأخيرة، بعدما أطفأت بعضا من وهج السياسة، يتأكد أن الأمر يعبّر عن حالة مرضية في ذهن هذه ''النجوم''. الأمر خطير جدا، لأنه يؤشر لما وصلت إليه البلاد من فقر مؤسساتي، ومن فقر معرفي، ومن فقر سياسي، وفقر في النخبة. نقول فقر مؤسساتي، لأن جلّ الأحزاب ليست مؤسسات سياسية تتولى متابعة عمل السلطة والحكومة، والعمل على تصحيحه، أو العمل على إعداد البدائل الممكنة، بل جلّها مجرد أجهزة مسخرة ظرفيا لخدمة ''الشمس'' التي تمنحهم الضوء، بلا أي مصداقية. أما الفقر المعرفي، فيتضح في هذا العجز المزمن عن إثراء الساحة السياسية بأي فكرة سياسية جديدة وجديرة بالمناقشة، وفي اقتصار نجوم الظلامية السياسية على لغة التبرير. أما بالنسبة للفقر في النخبة، فإن عوامل كثيرة تلاقت لتعطي حالا مخيفة من اجتماع قلة الكفاءة مع الفساد، سواء في الساحة السياسية أو في العمل الحكومي. ولكن، ماذا لو تساءلنا من أين تأتي جلّ وجوه الساحة السياسية اليوم؟ مثلا، يأتي السياسيون في الولاياتالمتحدة من رجال القانون أولا، ومن عالم الأعمال، ومن المؤسسة العسكرية، ومن مراكز الدراسات الجامعية. ويأتون في فرنسا من المدرسة الوطنية للإدارة، ومن عدد من المدارس الكبرى والجامعات. ومع ذلك، فالكل يتقلد المسؤولية بعد نضال طويل جدا، وإعداد يدوم أعواما وأعواما. أما عندنا، فيمكن أن تجد أميا أو شبه أمي برلمانيا، وأن تجد زعيم حزب لا يستطيع صياغة جملة مفيدة، بل وتجده لم يعرف للنضال معنى في حياته، وأن تجد وزيرا لا يستطيع التعبير عن فكرة بلغة واضحة ومفهومة. والأمر خطير أيضا عندما يكبر الشعور أن من هم من المفترض أن يكونوا ''طبقة سياسية''، غير قادرين حتى على خدمة السلطة ومصالحها، وهذا يعني، بشكل مباشر، أن هؤلاء ليسوا عاجزين عن التفكير في مسائل سياسية فحسب، بل هم عاجزون حتى عن إعطاء مصداقية للتبرير الذي يتولونه. والأمر أخطر عندما يكبر الانطباع أن الجزائر عادت القهقرى. فعوض أن نسير باتجاه دولة المؤسسات، سارت الأمور لصالح منطق الحاكم المطلق، ومنطق العصب. ووجد هذا المنطق في ممثلي الظلامية السياسية، في حزب الجبهة وفي التجمّع الوطني وعدد آخر من الأجهزة الحزبية، المهللين والمبرّرين لهذا التراجع الخطير. طبعا، هذا المنطق وهذه الأنماط البشرية هي التي تجعل تفضيل خدمة الرئيس على خدمة الدستور، وتفضيل خدمة العصبة على القانون أمرا مقبولا. لكن، كل ذلك صار سائدا، لأن الهيمنة صارت للظلامية السياسية والبيروقراطيات السياسية وغير السياسية وللنظام الريعي، بما في ذلك ريع الضمائر. ومن ثم، فإن تلاقي غياب ''ساحة سياسية'' وعطل النخبة وهيمنة الرداءة وقلة الكفاءة، مع قلة مصداقية المؤسسات، لابد أن ينتج الفساد، ويجعله نظاما متكاملا ومستحكما. لهذا، صار التغيير مصلحة وطنية عليا.