توقف الكثير عند ''الانقلابات النخبوية'' في حزب جبهة التحرير وفي التجمّع الوطني، وعند إعلان السيد حسين آيت أحمد عدم الترشح مرة أخرى لرئاسة جبهة القوى الاشتراكية، وحتى عند استقالة سعيد سعدي، واعتبرت هذه مؤشرات على ''تجديد'' مقبل في الساحة السياسية، وبداية مرحلة جديدة، وانتظار بروز قيادات وزعامات سياسية جديدة. ولكن، ما الذي يمكن فعلا للساحة السياسية أن تنجبه؟ هناك في مكوّنات الساحة السياسية ما يمكن أن نسمّيه ''تورما حزبيا''، واحتلال ''هويات سياسية'' من غير أي استحقاق معرفي أو سياسي، وذلك يؤشر لفوضى سياسية تعيق قيام الفعل السياسي في معانيه السامية. إن مجتمعا من غير قوى سياسية حقيقية تتولى إدارة التدافع بين المصالح، وتتولى التعبير عن تطلعات مختلف الفئات الاجتماعية وصياغة مشاريع مجتمع لها، يعني ترك الأمر للشارع والصدفة، وحتى للمغامرة والمغامرين. السياسة نضال يقوم على مدارس، تستند لمرجعيات فكرية. فأي المدارس السياسية من المفترض أن نراها اليوم في حياتنا السياسية؟ انطلاقا من التاريخ السياسي الوطني، وانطلاقا من الأدبيات السياسية التي أنتجتها النخب الجزائرية في حقب تاريخية مختلفة، فإن المدارس التي من المفترض أن تعبر عن نفسها أربعة. هناك مدرسة التيار الوطني، وهو يواجه أزمة حادّة متعدّدة الأبعاد، ووصل حدّا مخيفا من التدهور. تدهور محتوى الخطاب وسيادة صراع الأشخاص والجماعات والعصب، وذلك وغيره أدى إلى إفراغه من كل قدرة على إنتاج خطاب غير خطاب التبرير. ومنذ ''المؤامرة العلمية'' البائسة بالخصوص تعرّض هذا التيار، وممثله الرسمي حزب الجبهة ،لانقلابات متواصلة وللركود على مستوى الأدبيات السياسية. لقد أوقفت المؤامرة التعيسة، وقبلها الأزمة ثم المأساة، كل محاولات الاجتهاد والتجديد، واتجهت الأمور باتجاه الاكتفاء بخطاب التبرير وإعلانات الولاء، لاسيما في عهد عبد العزيز بلخادم. اليوم، هناك مشاريع تجديد لهذا التيار وخطابه، لكنها مشتتة، تفتقر للأدوات والوسائل، بل وتفتقر للمناخ المواتي لانطلاقها النضالي. وهناك مدرسة التيار الإسلامي. ويظهر حال هذا التيار، اليوم، لاعتبارات موضوعية ذاتية، ولاعتبارات موضوعة من قبل أطراف مختلفة، قلت يظهر حاله أسوأ من حال التيار الوطني، خاصة من حيث تجنيد النخب، ومن حيث القدرة على اقتراح بدائل حلول أو مشروع مجتمع متكامل. إن نخب هذا التيار، في الوقت الذي تعيش تعدّدية غير منتجة وتعيش صراعات وانقلابات مبرمجة أو ناجمة عن ''تدافع الطموحات'' الفردية، لا تطرح إشكاليات كثيرة، عجزا أو خوفا أو تكتيكا، ومنها رؤية منهجية لبناء الدولة. إن التركيز على المسائل الأخلاقية وعلى تطبيق الشريعة وعلى استخدام العنف من عدمه، هو الطاغي حتى الآن، أو ذلك هو الذي يبرز أكثر من غيره في الانعكاس الإعلامي لخطابه السياسي. وهناك مدرسة تيار اليسار، وهو يعيش أزمة عميقة، وفي حاجة ل''تجديد'' أكيد وعميق. وبعض مكوّناته تعيش أزمة وجود، وهو ربما في حاجة لقطيعة معرفية ومراجعات عميقة لمنطلقاته ومناهج عمله، لأنه ظل عبر تاريخه يعيش عوائق كبيرة وكثيرة في بناء قاعدة اجتماعية سياسية دائمة له. الرابعة مدرسة التيار الليبرالي، وهو غير موجود، خاصة من الناحية المعرفية. فالمال لا يملك، حتى الآن، نخبة تعبّر عنه تعبيرا معرفيا وسياسيا، وهو يستعير أو يستخدم بنسبة أو أخرى بعض الأحزاب السلطوية وغير السلطوية، بما في ذلك الإسلامية. ولكنه ما زال يعيش نوعا من الرفض الاجتماعي السياسي، بسبب الموقف من الثروة وطرق تكوينها، ثم بخصوص ارتباطه باللائكية وبالغرب. ولعل المشكلة المشتركة بين جميع هذه التيارات هي زهد الكثير من مكوّنات النخبة في العمل السياسي، لقلة مصداقيته وجدّيته أو بسبب الإقصاء، وهو ما أقعد الأحزاب وجعلها خاوية، وأحيانا غاوية. تبعا لهذا، كيف يمكن أن تقوم ساحة سياسية؟ ومن يمكن ترشيحه لتجديد هذه التيارات ومنحها قدرة على الانطلاق مرة أخرى في فعل نضالي؟ لا أدري. الأمر ليس في حاجة لقرار، بل لولادة نضالية طبيعية. والساحة، للأسف، ما زالت ليست حبلى ولكنها ليست عاقرا، لذلك، ينبغي لها أن تحبل ولكن ممن؟ أخيرا، أقول إن الأحزاب الحالية الممثلة للتيارات المدارس الأربعة، معاقة أو متأزمة أو تعرّضت لعملية إفراغ، انتهت بها إما إلى الأزمة أو حتى إلى العطل الكامل، فصارت لا تنتج نخبا بل تستهلكها، ولا تقدم بدائل حلول بل هي التي تحتاج للعلاج أو للموت الرحيم. [email protected]