في الوقت الذي تشغل أخبار الفساد وامتداد أيادي المفسدين بكل الطرق الشيطانية لنهب المال العام، وتصاعد الاحتجاجات الاجتماعية في مناطق متفرقة من الوطن، حيزًا واسعًا من كتابات الصحف واهتمامات المواطنين، تمّ تسليط الأضواء، في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، على أحد المشتغلين بالرّقية في الجزائر، أقلّ ما يقال فيه إنّه غريب الأطوار! هذا الرّاقي المدعو ''بلحمر أبو مسلم'' المولع بمطاردة العفاريت يقول عن نفسه: ''قضيت طفولتي في الغابات والمقابر، وكنت أخاطب الأشجار والحجارة..''. في الحقيقة لم نكن لنتوقف عند تفاصيل طفولة ''بلحمر''، ولا عند حواراته، لولا أنّ هذا الرّاقي تعمّد استعمال اسم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الراحل الشيخ عبد الرحمن شيبان، وشخصيات وطنية التحقت بجوار ربّها، لتأكيد مصداقية ممارساته وأفكاره المثيرة للجدل! فعندما سئل الرّاقي ''بلحمر'' عن الشخصيات الهامّة في الجزائر التي كانت تقصده للرقية أجاب: ''.. إنّ الرئيس الشاذلي بن جديد وعبد الحميد مهري ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الشيخ شيبان، وعلماء من خارج الوطن كانوا يرقون عندي''. وإذا كنت غير مخوّل، ولا مطّلع على حقيقة ما إذا كان السيدان الشاذلي بن جديد، رئيس الجمهورية الأسبق، وعبد الحميد مهري، الأمين العام الأسبق لجبهة التحرير، عليهما رحمة اللّه، قد قصدا ''بلحمر'' للرّقية، فإنّي أشك كثيرا أن يكون رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين السابق، الشيخ عبد الرحمن شيبان، رحمه اللّه، من بين الشخصيات التي عرضت نفسها على ''بلحمر'' لكي يرقيها، وذلك لأسباب عديدة أهمّها أنّ نجل الشيخ شيبان، الدكتور نوفل شيبان، هو من أقرب المقربين للشيخ شيبان في حياته، والذي كان يلازمه في حلّه وترحاله، وراعيًا له في أيام مرضه، قد نفى نفيًا قاطعًا، في اتصال هاتفي معي، أن يكون والده الشيخ شيبان قد تلقى أو طلب رقية من ''بلحمر''. والغريب أنّ الراقي، الذي لم يتردد في ذكر أسماء الشخصيات الثلاث: بن جديد، مهري وشيبان، بأنّهم كانوا ممن تلقوا الرقية على يديه، وهم كلّهم ممن فارقوا الحياة، نجده يرفض الكشف عن أسماء الأحياء ممن كانوا يرقون عنده، وقال ''لا، مستحيل، لقد استأمنوني على عدم ذكر أسمائهم. نعم كثير من السياسيين في الجزائر يرقون عندي، ومشايخ وعلماء من خارج الوطن، حتى من السعودية، أنا أرقيهم، لكن لا أستطيع ذكر أسمائهم للأمانة''. أليس من المثير للدهشة والريبة أن يسارع هذا الراقي إلى ذكر أسماء الأموات، ويمتنع، باسم الأمانة، عن ذكر أي اسم من الأحياء؟! سبق ''بلحمر'' أن ذكر، في جريدة وطنية أخرى، أنّ الشيخ عبد الرحمن شيبان كان، قبل وفاته، عضوًا في الجمعية العالمية للرقية، التي أسسها وأطلق عليها اسم ''بشائر الشفاء''. وحقيقة الأمر أنّ ''بلحمر'' كان قد زار الشيخ عبد الرحمن شيبان، رحمه اللّه، في بداية سبتمبر 2008، بتوصية من أحد كبار أصدقاء الشيخ شيبان، واغتنم الراقي فرصة لقائه بالشيخ، في مقر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لالتقاط صور معه، ثم أرسل نسخًا من هذه الصور الفوتوغرافية إلى بعض الجرائد الوطنية، ليؤكد معرفته وصلته برئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وللأسف فقد استخدم، قبل ''بلحمر''، شخص آخر هذا الأسلوب الملتوي، وهو حسن قباني، المدير العام لشركة ''جيزي'' للهاتف المحمول، الذي قام بزيارة الشيخ شيبان في مارس 2008، بعد أن تعرّض مالك الشركة الأم ''أوراسكوم تليكوم''، الملياردير المصري نجيب ساوريس، لحملة تتهمه بتمويل حركات التبشير في الجزائر، فأخذ قباني صورًا مع الشيخ شيبان وأرسلها لبعض الصحف، ليظهر أنّ علاقات الشركة مع الرموز الإسلامية في الجزائر على أحسن ما يرام.!! كان الشيخ شيبان، رحمه اللّه، رجل حوار ومصالحة وانفتاح، لكنّه كان، أيضا، عالمًا سنيًا تقيًا، عارفًا بتوجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وهدي السلف الصالح والميراث الفكري والإصلاحي لجمعية العلماء المسلمين، فلذلك لا أعتقد أنه يغيب عن عالم مثله أن الأولى والأتقى، في عموم الرقية، هو أن يقرأ الإنسان على نفسه وأهله، اقتداء بالرسول الكريم سيّدنا محمد، صلّى اللّه عليه وسلّم، الذي قالت عنه زوجته أم المؤمنين السيدة عائشة، رضي اللّه عنها، في الحديث المتفق عليه: ''أنّ النبي، صلى اللّه عليه وسلم، كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلمّا اشتّد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها''، وقالت أيضا: ''كان الرسول، صلى اللّه عليه وسلم، إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات''. ومن هنا ندرك أنّ الرقية أمر مشروع بالقرآن الكريم، لقوله تبارك وتعالى في الآية 82 من سورة الإسراء {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ للمؤمنين}. وهي أمر مشروع، كذلك، بالسنة النبوية الشريفة لقوله صلى الله عليه وسلم: ''اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقية ما لم يكن شرك''. والمسلم المؤمن يبدأ برقية نفسه بآيات الرقية الثابتة في القرآن الكريم، وأشهرها الفاتحة وآية الكرسي والمعوذتان، وكذلك بالأدعية المأثورة من السنة النبوية الشريفة، والشيخ شيبان، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لم يكن غير مدرك لهذه الحقائق الدينية، حتى وإن كانت الرقية من قِبل الغير جائزة شرعًا، لقول رسول اللّه، صلى الله عليه وسلم: ''من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل''، يقصد الرقية من قِبل الغير. ولكن من أهم شروط الرقية الشرعية أن لا يعتقد الراقي أنّ الرقية تؤثّر بذاتها بل بذات الله تعالى، وأن الراقي هو الذي يشفي المرض ويذهب العلل، فهذا شرك بالله تبارك وتعالى، الذي هو الشافي ومذهب البأس. أما الرقية فهي مجرّد طلب الاستشفاء بالطرق الشرعية المأثورة، ولذلك عندما جاء ''بلحمر'' إلى الشيخ شيبان، ليطلب منه الحصول على تزكية جمعية العلماء المسلمين لعمله، أحاله الشيخ شيبان على الداعية الشيخ ''حيرش بن عودة''، المراقب العام لجمعية العلماء المسلمين، المعروف بنشاطه الدعوي في غليزان، التي يتخذها ''بلحمر'' مقرًا لجمعية ''بشائر الشفاء'' ومكانًا لممارسة عمله في الرقية، وقد أبدى الشيخ حيرش، يحفظه اللّه، تحفّظه على منح تزكية جمعية العلماء المسلمين للراقي ''بلحمر''، الذي يبدو أنّه كان يتخذ من القيام بالرقية مهنة ووسيلة للشهرة وأغراض أخرى.. ولم أقرأ، في الحوار الذي أجري مع الراقي ''بلحمر''، ما يدل على أنّه ينسب شفاء المرضى والممسوسين والمسحورين إلى الله تبارك وتعالى، بل إنّ أجوبته تدل على أنّه يفاخر بقدرته على الشفاء وقهر السحرة وترويض الجنّ؟!..