سبق أن كتبت عن مسألة الحرية وأهميتها، وقد استندت للخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ومقولته الشهيرة: ''متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتم أحرارا..''، كما استندت لمقولة شهيرة لفيكتور هيغو الذي قال ما معناه: حرّروا الحرية والحرية تتولى الباقي. اليوم ينبغي التشديد على أنه ثبت أن تحرير الأوطان غير ممكن من غير تحرير الإنسان. وسيادة الأوطان الفعلية غير ممكنة من غير سيادة الناس على مصيرهم وعلى خيرات أوطانهم. اليوم وأمام الوضع الذي تعيشه الكثير من بلدان العرب وأمام سيلان الاحتجاجات الاجتماعية، كما هو الحال في الجزائر وفي المغرب، والسياسية، كما هو الحال في بلدان أخرى كثيرة، لا بد من الانتباه أن المسألة ليست اقتصادية، بل هي من صميم بناء الدولة، دولة الناس دولة الحرية. لنتوقف عن أوهامنا وعن أفكارنا الخاطئة، شعاراتنا عن الوطن وعن الاستقلال وعن السيادة ينبغي أن تتغير سريعا. مطلبنا الأساسي، اليوم، ينبغي أن يكون الحرية، فهي عامل التنمية الأساسي وهي طريق السيادة الأكيد. لا يمكن محاربة الفساد من غير حرية، ولا يمكن إحداث أي تغيير يذكر من غير حرية. ولا يمكن أن نطمح إلى أي تنمية من غير حرية، ولا إلى بناء دولة مؤسسات ولا دولة قانون من غير حرية الإنسان. لكن، هل ينبغي للمطالبة بالحرية من حرية؟ ذلك ما يتذرع به البعض. في عهد الطغيان الاستعماري، الفرنسي منه والبريطاني، تمكنت النخب والشعوب في الكثير من البلدان العربية، من النضال من أجل الحرية. وقد تم التخلص من الاستدمار في شكله المباشر. مقابل هذا، يحاول البعض اليوم نشر أو حتى فرض فلسفة عرجاء فاسدة، مفادها أن الإنسان في هذه البلدان ''متخلف وفاسد''، ولا يمكنه أن يستخدم الحرية في ما يفيده وينفعه هو ودولته ووطنه، لهذا فهو في حاجة ل ''التقييد'' لكبت روح التمرد وروح الإفساد فيه. لكن هل هذا الكلام صحيح؟ علماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعي، سيردون بعنف على ذلك ويعتبرونه تفلسفا عابثا. ليس هناك مجتمع لا يحكم إلا بالقهر والفساد. ففرض القانون والأمن والاستقرار مسألة جادة وأساسية ولكن لا بد على من يقوم بفرض القانون أن يكون قدوة وأن لا تكون مصداقيته مطعونا فيها ولا شرعيته مطعونا فيها. البعض يجزم بجدية ولكن بالكثير من الجهل ''كما تكونوا يولى عليكم''، وهو ما يعني أن المجتمع جله فاسد ومفسد. وهذا أمر لا يستقيم. فالمجتمع، في هذه البلدان، مثل أي مجتمع أغلبيته صالحة، حتى ولو كانت عاجزة أو أمية، وأقليته فاسدة وأقلية الأقلية مفسدة. كما أن الذهاب إلى هذا الطرح قد يعني أن الحكام ينبغي أن يكونوا على صفة الفاسدين وليس الصالحين في المجتمع. إنه هراء فاسد. الحرية هي بداية الطريق نحو المجتمع المسؤول. نعم ذلك يعني أن الحرية تعني القدرة على الاختيار وتعني المسؤولية في الاختيار. إذا كانت الانتخابات لا تمثل اختيار الناس والبرلمانات لا تمثل الناس والحكومات تعبير سلطوي منقطع عن الناس وإذا كانت الأحزاب لا تمثل مصالح أغلبية الناس، فمعنى ذلك انتفاء وجه المسؤولية شرعا وقانونا. الحرية تفرض بالضرورة المسؤولية وتفرض بالتالي القانون وسلطة القانون. تلك ينبغي أن تكون القاعدة لا الاستثناء. ولو كانت هذه هي القاعدة لما انتشر نهب الثروة العامة في غفلة أو بنزوة أو بعجز أو بتغطية، ولو كانت هي القاعدة لما كان الشيء الأكثر نموا هو الفساد وهو المال الفاسد، ولما كان الخوف كل الخوف، اليوم، من مخالب الفساد السياسية. طبعا الحرية ليست حرية الإفساد وليست حرية تجاوز القانون وليست حرية القتل والتدمير. الحرية هي رضا جماعي بالقانون، لأن القانون لا يمكن فرضه بالقوة وإلا لكان الاستعمار قد استمر وكانت أنظمة القهر والطغيان قد استمرت. مقاومة الفساد في حاجة للحرية وللقانون، لأنهما هما اللذان يوفران جل شروط إيقاف عملية إفساد الصالحين وحماية المفسدين. من غير حرية الإنسان حرية الأوطان مهددة وسيادتها مهددة، ولا وقف لتدهور القيم وتدهور حرية الأوطان واستقلال قرارها وسيادتها من غير حرية الإنسان. كفى أوهاما.