أصدقكم القول إن شعورا ينتابني، في الكثير من الأحيان، أمام هذه الفواجع عن الفساد وعن الرشوة، على هذا النطاق المخيف أن ''الحرية'' التي نعتقد أن وسائل الإعلام، وخاصة الصحافة المكتوبة، تتمتع بها، غير فاعلة وغير مجدية أبدا. فأمام ما نكتبه ونردّده، في محاولة تحريك الضمائر والنفوس وتحريك سواكن الوضع والتنبيه، تنبيه السلطة قبل غيرها، إلى المهالك التي تتوعدنا، وأمام ما نكتبه ونردّده عن الفساد وعن ضرورات التغيير والإصلاح، وعن ضرورة استعجال بناء دولة المؤسسات، وضرورة استعادة الدولة لهيبتها وخضوع كل سلطة للرقابة السياسية والقانونية، وضرورة ضمان استقلالية القضاء ووجود حياة سياسية حقيقية وأحزاب حقيقية، أمام كل هذا، لا شيء يتحرّك، لا أحد يغضب، ولا مؤشر يدل أن الكتابات تفيد في شيء، إلا ربما إعطاء الوضع القائم مصداقية. أستسمح زملائي في المهنة أن أقول إننا قد نكون في ما نقوم به في حال ما قد يصفه البعض بأنه ''نباح''، لا يخيف أحدا، ولا يجعل لصوص المال العام والفاسدين يخافون أو يتراجعون عن النهب. للأسف الشديد، ليس في البلاد من يقول إنه ''يخشى صرير الأقلام ولا يخشى دوي المدافع''، كما قال نابليون، ولا من يقول ما قال توماس جيفرسون يوما: ''لو خيّرت بين أن تكون لنا حكومة دون صحافة أو صحافة دون حكومة، لاخترت دون تردّد الثانية''، أو قوله: ''الجبناء يفضلون هدوء الاستبداد على بحر الحرية الهائج''. ولسنا في بلد يخشى فاسدوه ''الحرية''، لأنها ليست حرية فاعلة. نعم، كُتاب الصحافة أحرار في رصف كلمات يسمونها رأيا. لكن، هل تلك هي الحرية؟ أين النخب وأين النضال، ولماذا نشعر أن النهب والفساد يتمتع بحرية أكبر؟ فحتى الدعوة إلى التغيير هي دعوة لاتباع سنة الحياة، وليست موقفا ثوريا كما يتصوّر البعض، بل ينبغي الانتباه إلى أن التغيير قد ينشده الفساد أيضا، لأنه يعتبر أن ''الحرية'' حريته هو غير كافية، وأن استمرار بعض من ''حرية التعبير'' إزعاج بل و''تعطيل'' للتغيير الذي ينشد ازدهار المصالح. ما يهمّني، في هذه الوقفة، هو وظيفة الإعلامي والإعلام. لا يمكن لأي فعل يحاول أن يرفع صوتا في وجه تقصير أو انحراف، وفي وجه هذه العلاقة غير الصحية، بين قمة الهرم وقاعدته، أو في وجه هذا الاستخدام غير الناجع وغير الفعال للثروة العامة، وهذا البطء في وقف النهب وفي محاربة الفساد وفي توفير شروط الخروج من التخلف والانحطاط المستحكم فينا، قلت لا يمكن أن يكون هذا الفعل هو الإعلام، ولا أن يكون هو وظيفة الإعلامي الكاملة. لا بد من نضال آخر من أجل الحرية. ولا حرية لإعلامي في مجتمع يئن، وفي مجتمع يغط في سبات عميق، وفي مجتمع بلا نخب ترفع صوتها بشكل منتظم من أجل الحرية. لا، الحرية لا بد أن تكون حرية مجتمع، وليس فقط حرية كتابة في مجتمع تنخره الأزمات، ويقعده التخلف وقوى التخلف والتسلط والفساد. وصدقت الحكمة القائلة: الحُرية لا تُوهب لأنَّها ليست صَدقة، وإنّما تُؤخذ لأنَّها حَقّ. اليوم، نخاف أن الحرية هي حرية لطرفين، للكلاب وللصوص، بمعاني الرواية الشهيرة لنجيب محفوظ، في آن واحد. وفي هذا السباق، فإن حرية الكلام وحتى الصراخ غير مزعجة، لأنه من الممكن أن يسدّ بعض القطن المستورد آذانا، بل قد تكون هناك أجهزة وتقنيات لحجب الأصوات المزعجة. لقد فرضت علينا في مطلع التسعينيات مقايضة ''الديمقراطية الاجتماعية'' التي لم تتحقق ب''الديمقراطية السياسية'' التي لم تتحقق، وفرضت علينا مقايضة ''الاستقلال'' ب''الاندماج''، وفرضت علينا مقايضة شيء من حرية التعبير بحرية المال، بل وربما بحرية اللصوص، وقد تفرض علينا مقايضة حب الوطن بحب المصالح. وفي ذلك فساد وانهيار للأخلاق والقيم والغايات التي سعت إليها ثورة نوفمبر المجيدة، وهو فساد لا يمكن أن تطهره مياه المحيطات، مهما ثارت ومهما أزبدت. لهذا نقول: الحلّ هو المسارعة إلى مزيد من الحرية للناس وللعمل السياسي والإعلامي، وإلى مزيد من دولة القانون ومن دولة المؤسسات، بما يمكن من تقييد حرية المال والفساد بالخصوص.