عندما كنا على مقاعد الدراسة، طلبة في كلية العلوم السياسية، عرفنا بأن السياسة هي فن الممكن، وفن الإدارة والحكم وأنها تتجلى في القدرة على التأثير والتسيير، وتتمركز حول معاني الدولة والسلطة والقدرة والنفوذ والحكم والمؤسسات والأنظمة ...الخ... مما ضمته دفات الكتب منذ المقالات الثمانية لأرسطو إلى غاية أنساق ديفيد إستون ومقولات ماكس فيبر ولاسويل وروبرت دال ونظريات جوزيف ناي وجيمس روزينو في العلاقات الدولية، فضلا عن فلاسفة التنوير ممن نظر للعقود الاجتماعية والأنظمة والدساتير والقوانين وكل ما يرتبط بعالم السياسة والمؤسسات ومفاهيم السيادة والأمن والسلم والاستقرار، والتي جاءت نتاجا لتحليل الخبرة التاريخية ابتداء، ومن خلال دراسة الظواهر السياسية وعملية صنع القرار واختيار البدائل، وانتهاء بتحليل السياسات العامة ووضع الاستراتيجيات الكلية، وفي العقود الأخيرة أضيف إليها مصطلح الحكم الرشيد، وهو مفهوم إصلاحي وإداري، تقني يسعى إلى اعتماد الشفافية ومكافحة الفساد وتحقيق التنمية المستدامة. وفي العقد الأخير بدأ المفهوم السياسي يتقارب نحو الاجتماعي بسبب ما بات يعرف بمجتمع الشبكات وما يميزه من تفاعلات وديناميكية مستجدة من شأنها أن تؤثر مستقبلا على مفهوم الحزب السياسي وعلى طبيعة العمل السياسي أيضا. أما التخلاط، فإنه ذلك المفهوم الأقرب إلى التفنن المزاجي القائم على تضخم الأنا والمرهون بموقف اللحظة والمفارق لسؤال الغد والمآل فيما يتخذه من مواقف، ويتميز أبطاله بالغلو في تقدير الذات والتمركز حولها. وينقسم عالم الخلاطين، إلى منظرين ومنفذين، أما المنظرون فأغلبهم ممن تولوا بعض المناصب في السابق ويطمعون في العودة إلى ممارسة النفوذ، أو ممن يخشون زوال مناصبهم، وغالبا ما تكون لديهم رغبة جامحة في ممارسة الوصاية واستشعار روح الأبوية السياسية تجاه صغار الخلاطين من المنفذين المنتفعين، ومن ثم يوظف المنظرون استغفالا واستغباء عناصر داخل المؤسسات والأحزاب ويحددون لها أدوارا هي أشبه بالألعاب النارية للصبيان، فيؤدوها فرحين لكنها سرعان ما تخبو وتنطفئ، ليهرع المنفذون إلى آبائهم الخلاطين ليمدوهم بالمزيد. علما أن التخلاط عموما موسوم بحدة الانفعال والمزاجية ورغبة مرضية في الانتصار ولو على حساب الصالح العام والمصالح العليا للدولة وعلى رأسها استقرار عمل المؤسسات. و«الخلاطين” هم أبعد الناس عن روح التوافق والتناغم بسبب تحكم ثقافة البطل في نظام تفكيرهم وتركيزهم على المصالح الشخصية بدل المصلحة العامة والسعي في سبيل قضاء حاجات الشعب وحل مشاكله. أما أدوات التخلاط، فإنها البهتان والتأليب والمغالطات ووضع الأمور في سياقات خاطئة ونشر الإشاعات والتآمر، وتوظيف كل العصبيات الضيقة وعدم الوقوف عند أي حد في سبيل بلوغ الهدف بما في ذلك الرشوة والمال. أما سلوكياتهم، فإنها تعكس نوعا من النرجسية المرضية، وتعدد المعايير إن وجدت في تقدير الأمور، والعجز عن الخروج من فضاء الذات الضيق إلى الفضاء العام الفسيح حيث المطلوب هو خدمة مصالح الشعب وفقا للعهود والعقود والبرامج. و«التخلاط” يختلف عن الصعلكة السياسية، لأن الصعاليك استخدموا وسائل غير مقبولة اجتماعيا من أجل مظالم عامة، في حين أن من يستخدم التخلاط يعمل وفقا لحسابات ضيقة، تنطلق من الخلاط وتعود إليه. يذكرني ذلك كله بقصة مفهوم الفوضى الخلاقة، والذي جاء نتاجا لبحوث طويلة ومعقدة قام بها علماء الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والفلك، حيث انتهوا إلى أن الظواهر الطبيعية هي أقل خطية وانتظاما مما كانوا يعتقدون، ومن ثم ولدت نظرية الفوضى أو التعقيد، ثم انتقلت إلى الباحثين في العلوم الانسانية واستخدمها علماء السياسة فيما يخص التحولات التي تمر بها الأنظمة السياسية وما تنتجه من انبثاقات، وفي هذا السياق العلمي كان قد استخدمها بوش الابن وكوندوليزا وفقا لنتائج مقاربات مراكز التفكير التابعة للبيت الأبيض، وفي هذا السياق أيضا كان الوزير الأول الفرنسي السابق “ميشال روكارد “ قد أكد في محاضرة له بعنوان “السياسي في مواجهة التعقيد” ألقاها أمام كوكبة من العلماء المتخصصين في العلوم الدقيقة أن “السياسي في أشد الحاجة اليوم إلى أن يكون قريبا من علماء في تلك التخصصات كي يساعدوه على فك حالات التعقيد الخاصة بالظواهر السياسية “وفي المقابل التقط الخلاطون عبارة الفوضى وعبروا عنها بقولهم «خلطها تصفى”!! إن “جماعة خلطها تصفى” من العاجزين معرفيا وعلميا عن استيعاب التعقيد وعن إدراك ما هو مركب، يتطاولون اليوم على الساسة من النخبة الفاعلة والقادرة وحدها في هذه المرحلة من التاريخ على قراءة الواقع المعقد، في عهد الانفجار المعرفي والتفاعلات غير المرئية، باعتبارهم الرأس مال الفكري للدولة، الأمر الذي يتطلب التوجه سريعا لجماعة “خلطها” تصفى وإبلاغها بأن هناك مسافة بين السياسة والتخلاط لابد من احترامها والمحافظة عليها، لأن تجاوزها يجعل التخلاط أقرب إلى عمل العصابات الذي يضرب أول ما يضرب أولئك الذين عرضوا أنفسهم للاستغفال والاستغباء! ، مع التأكيد على أنه في عهد المخابر ومراكز التفكير لابد أن يتراجع اللاعبين والخلاطين والرشامين، لأن “الشكارة” الحقيقية أو القيمة المضافة سيتم تحصيلها من خلال الاستثمار في رأس المال الفكري للدولة، أما شكارة التخلاط فهي غريبة عن مجتمعنا ومصيرها بالضرورة إلى زوال.