المسجد الوحيد في "تقسيم" يتعرض للتدنيس لم توهن الأمطار الغزيرة التي تهاطلت على إسطنبول، أمس، من عزيمة بضعة آلاف من المعتصمين بحديقة “جيزي” بميدان تقسيم، والذين نصبوا خيما صغيرة ولكنها كثيرة العدد، وارتدوا معاطف بلاستيكية بسيطة من صنع صيني، غير أن الملاحظ أن معظم الشعارات التي رفعت في ميدان “تقسيم” سياسية، ونادرة هي تلك التي تدافع عن البيئة، فيما اعتبر بعض الأتراك أن “تقسيم” كانت ولازالت مركزا للخطيئة في إسطنبول، بينما يمضي أردوغان قدما في استكمال بناء جسر السلطان سليم ومسجد تقسيم الكبير، مستعينا بالدعم الكبير الذي يتلقاه من أنصاره. معظم المتظاهرين شيوعيون وعلويون وأكراد، بالإضافة إلى مجموعات من المنحرفين والشواذ، وفئات مهنية كالأطباء والمحامين بالإضافة إلى الطلبة، والمفارقة الغريبة أن القوميين الأتاتوركيين رغم عدائهم للأكراد، إلا أنهم معتصمون جنبا إلى جنب مع أنصار حزب العمال الكردستاني (المحظور) بقيادة عبد الله أوجلان، فالهدف الآن واحد، هو الضغط على أردوغان من أجل “الرحيل” رغم تأكيدهم ل«الخبر” أنهم “يعلمون بأن أردوغان لن يرحل”، لكنهم منقسمون بشأن الاستفتاء حول إقامة مجمع تجاري وثقافي أو الإبقاء على “حديقة جيزي”، فهناك مخاوف أن يهزمهم أردوغان ديمقراطيا كما هزم معارضيه السياسيين وحتى في المؤسستين العسكرية والقضائية، عندما عدّل الدستور بشكل قيّض تدخلهم في الشأن السياسي. وبدت ساحة تقسيم أمس هادئة تترقب أي مفاجآت قد تحدث في أي لحظة، فقوات الشرطة كانت متواجدة بكثافة ولكنها محتشدة في الجهة المقابلة لحديقة “جيزي”، خاصة بعد أن تمكنت من تحرير محيط حديقة “جيزي” من المتاريس والسيارات المحروقة التي أعاقت حركة السير. “تقسيم”: ميدان تحرير جديد أم مركز الخطيئة؟ في الطرق المؤدية إلى الحديقة بدت الحياة عادية إلا من آثار الحرائق التي أشعلها المحتجون، وشعارات لأحزاب شيوعية محظورة وأخرى كردية، تدعوا أردوغان للرحيل وتصفه بالقاتل والديكتاتوري وأنه “يحتل أرضهم”، وشعارات أخرى تشيد بأوجلان زعيم الأكراد المعتقل في السجون التركية والمحكوم عليه بالإعدام، وشعارات أخرى مثل “تقسيم سيصبح ميدان التحرير”، و«هيا ننتفض”. وفي كل شوارع مدينة تقسيم لا تشم سوى رائحة الخمور، فالحانات ومحلات بيع الخمر هنا كثيرة، ومن النادر أن تجد مسجدا في تقسيم على عكس المدينة القديمة في إسطنبول التي تنشر فيها المساجد القديمة والجديدة بكثرة، ونفس الشيء بالنسبة للحجاب، فمن النادر أن تجد امرأة محجبة في تقسيم إلا السافرات، على حد تعبير أحد الأتراك، على عكس المدينة القديمة التي توجد بها أحياء لا ترى فيها إلا النساء المتجلببات، خاصة في الأحياء التي تنتشر بها الطرق الصوفية خاصة الطريقة النقشنبدية. ورغم أنه لا يفصل بين تقسيم والمدينة القديمة سوى خليج إسطنبول الذي يقسم الجزء الأوروبي من إسطنبول إلى جزئين، إلا أن كل شيء مختلف بين جانبي الخليج، ولا يربطهما سوى ثلاثة جسور آخرها جسر السلطان العثماني “سليم” محارب الصفويين، والذي استفز الأقلية العلوية ودفعها إلى الانضمام للمحتجين ومطالبتها بتغيير اسم الجسر، والذي وجدناه في طور التشييد، وربما وصلت به نسبة الأشغال إلى 90 أو95 بالمئة. كما أن مشروع بناء مركز تجاري وقلعة عثمانية ومسجد كبير في ميدان تقسيم انطلق منذ مدة ليست بالقصيرة، والنفق الأرضي للسيارات وصل إلى مستوى متقدم من الأشغال التي توقفت مؤقتا، ولم يبق سوى إزالة الحديقة التي توجد بها مئات الأشجار وليس 15 شجرة، كما قال أردوغان مجازا. الأتاتوركيون والأكراد ينسون عداءاتهم من أجل الضغط على أردوغان وعلى مدخل “حديقة جيزي” وقف شاب فوق سيارة شرطة محروقة وأخذ يلوّح بعلم تركي كبير رسم بداخله صورة أتاتورك، وتساءل شاب بجانبه متعجبا عن السبب الذي يدفع أردوغان إلى “وضع صورة عملاقة لأتاتورك (على بناية رسمية كبيرة على يسار الحديقة) رغم أنه يكرهه”. أما على يمين الحديقة فتجمع شباب ونساء أكراد من حزب العمال الكردستاني في خيم صغيرة وجماعية ورفعوا الرايات الصفراء وعليها صورة عبد الله أوجلان. أما العلويون فكانوا في وسط الحديقة وتعرفهم من خلال شعاراتهم على غرار ورقة عليها صورة ملك السعودية وأميري دولتي الإمارات وقطر ومكتوب تحتها بالتركية “هل بإمكان الملوك نشر الديمقراطية في سوريا”، بالإضافة إلى شعارات قومية مثل “هيا نتخلص من سيطرة واشنطن وبروكسل (الاتحاد الأوروبي)”، وأخرى تسخر من دعم أردوغان لثورات الربيع العربي “أردوغان مبروك عليك لأنك أفدت تونس ومصر”. وفي داخل الحديقة انتشرت مئات الخيم الصغيرة، بها فتيان وفتيات ينامون بشكل جماعي ومختلط، وهنا يدخنون ويشربون الخمر ويمارسون ما لا يخطر على بال، لتحدي أردوغان الذي يتهمونه بأنه يريد أخلقة المجتمع ونشر الشريعة الإسلامية والتضييق على حريتهم في السكر والتدخين وغير ذلك. وفي هذا الشأن قال نوري ويغوندو(طالب 24 سنة) التقته “الخبر” في حديقة جيزي إن “أردوغان منع علينا التدخين والخمر والآن يريد تغيير الحديقة”، وأضاف “نحن لا نريد بناء مسجد، ولا مركز تجاري”، لكنه استدرك وقال “لسنا ضد بناء المساجد، ولكن مسجد واحد في تقسيم يكفي”، وعبّر عن استعدادهم لمقاومة الشرطة كما فعلوا في كل مرة إذا أراد أردوغان طردهم من الحديقة بالقوة. آلاف المصلين محرومون من الصلاة داخل المساجد لم نكن نعرف قبل أن نأتي إلى ميدان تقسيم أن هناك مسجدا في هذه المنطقة، كما أكد لنا أحد الأتراك، خاصة وأنه بمجرد أن تصل ميدان تقسيم تقابلك على اليمين كنيسة كبيرة، وفي حديقة جيزي علمنا بأنه يوجد مسجد صغير قريب منها، ويتراءى لك من بعيد منارة صغيرة وسط البيوت، سمعنا من خلالها آذان صلاة الجمعة، وكنت أعتقد أنني سأجد عددا قليلا من المصلين في تقسيم، ولكني تفاجأت لأربعة أشياء عندما وصلت إلى المسجد... أولها أن المسجد صغير جدا، ولا يمكنك أن تعرفه إلا من خلال المنارة، والأغرب من ذلك أن المسجد أو المصلى يقع في بناية من طابقين أو ثلاثة، والطابق الأرضي عبارة عن مطعم ومقهى لأحد الخواص، والطابق الأول والثاني عبارة عن قاعات صغيرة جدا للصلاة لا تتجاوز 20 مترا مربعا، وفي الطابق الثالث غرفة للجنة المسجد بها يتم التحكم في كاميرات المراقبة داخل المسجد، وبجنب تلك البناية الثانية مستودع صغير خصص أيضا للصلاة، وبالقرب من المستودع، يوجد مستودع أصغر كبيت للوضوء. المفاجأة الثانية تمثلت في الأعداد الكبيرة للمصلين، الذين لم يسعهم المسجد بطابقيه ومستودعاته، فعج الزقاق المقابل للمسجد بالمصلين. أما المفاجأة الثالثة، فتمثلت في كثرة أعداد عناصر الشرطة الذين جاؤوا لأداء صلاة الجمعة بلباسهم الرسمي وبأسلحتهم دون أن يزعج ذلك بقية المصلين. والمفاجأة الرابعة، هي قيام المحتجين في ميدان تقسيم بتدنيس جدران المسجد، وكتابة شعارات معادية للإسلام، وعلق أحد سكان تقسيم ويعمل سائقا (52 سنة) بأن هؤلاء المتظاهرين والمعتصمين “معادون للإسلام وليسوا ضد إزالة حديقة جيزي”، وتابع “الحديقة كانت منذ زمان تعج بالكثير من المنحرفين لذلك لا يريدون إزالتها”. وبصعوبة كبيرة قبل أعضاء لجنة مسجد تقسيم استقبالي بمكتبهم في الطابق الثالث وأخبروني أن تقسيم بها مسجدان صغيران أحدهما يوجد بعيدا عن حديقة تقسيم ويدعى “مسجد حسين”، وقالوا لي بأنه سيتم بناء مسجد كبير خلف مسجد تقسيم، وأنه لا يوجد مشكل من إنجاز هذا المسجد الذي يبعد عن ميدان تقسيم بعشرات الأمتار رغم اعتراض الشيوعيين والقوميين والأكراد والمنحرفين على بناء المسجد مع أنه لن يبنى داخل الحديقة ولا بجانبها. واعتبر إمام المسجد الذي كان متحفظا جدا أن ميدان تقسيم أصبح فيه الكثير من الأجانب الذين يحاولون إثارة الشعب التركي ضد الحكومة، فيما قال آخر “تركيا منقسمة، لدينا 50 بالمئة من الشعب مؤمنون و50 بالمئة منافقون”، لكن الإمام سارع إلى مقاطعته، وقال لي بقلق إن “أي كلام سيصرحون به لنا قد يجلب لهم المشاكل”. والأكيد أن سعي أردوغان لإزالة حديقة جيزي بالإضافة إلى كل الأسباب التجارية والتاريخية والثقافية والدينية، تهدف إلى تحقيق اختراق سياسي وفكري لأكبر معقل للمعارضين الشيوعيين والأكراد وحتى المنحرفين في إسطنبول، وكان هذا سببا كافيا لإثارة كل من يختلف مع أردوغان فكريا أو سياسيا أو طائفيا، إلا أن الأصداء التي لمسناها في تقسيم وإسطنبول أن الإطاحة برجب طيب أردوغان بنفس الطريقة التي أطيح بها زعماء دول الربيع العربي مستبعدة جدا، بالنظر إلى الدعم الشعبي الكبير، وتمكنه من تحقيق إصلاحات عميقة في المؤسستين الأمنية والعسكرية بشكل أصبحتا طيعتين بين يديه.