الحجّ موسم عبادة تصفو فيه الأرواح وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام وهي ترف حول هذا البيت وتستروح الذِّكريات الّتي تحوم عليه وترفّ كالأطياف من قريب ومن بعيد. طيف إبراهيم الخليل عليه السّلام وهو يُودِّع البيت فلذة كبده إسماعيل وأمّه على الجميع الصّلاة والسّلام. ويتوجّه بقلبه الخافق الواجف إلى ربّه: “رَبَّنَا إنّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتِي بِوَادٍ غَيْرَ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِموُا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون” إبراهيم37. وطيف هاجر وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرّضيع في تلك الحرّة الملتهبة حول البيت، وهي تُهَرِول بين الصّفا والمَروة وقد أنهكها العطش، وهدّها الجهد وأضناها الإشفاق على الطفل، ثمّ ترجع في الجولة السّابعة وقد حطّمها اليأس لتجد النَّبْعَ يتدفّق بين يدي الرّضيع، وإذا هي زمزم، ينبوع الرّحمة في صحراء اليأس والجدب. وطيف إبراهيم عليه السّلام وهو يرى الرُّؤيا، فلا يتردّد في التّضحية بفلذة كبده، ويمضي في الطّاعة المؤمنة إلى ذلك الأفق البعيد: “قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّيَ أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّيَ أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا تَرَى” فتُجيبه الطّاعة الرّاضية في إسماعيل عليه السّلام: “يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرْ سَتَجِدُنِيَ إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِين”، وإذا رحمة الله تتجلّى في الفِداء: “وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمَ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ” الصّافات 102-107. وطيف إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام يرفعان القواعد من البيت في إنابة وخشوع: “رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْن لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ” البقرة 127-128.