في صحراء مكّة القاحلة ترك سيّدنا (إبراهيم) عليه السلام زوجته (هاجر) ووليدها وهو يدعو: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ، رَبّنَا إِنَّك تَعْلَم مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِن وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّه مِنْ شَيْء فِي الأَرْض وَلا فِي السَّمَاء} إبراهيم /37 -38. نفد الماء والزّاد والأمّ لا تجد ما تروي به ظمأ طفلها، وقد جفّ لبنها فلا تجد ما ترضعه، فيتلوّى جوعا وعطشا وتسرع وتصعد على جبل الصفا، تنظر لعلّ أحدا ينقذها وطفلها من الهلاك، لكنها لا تجد فتنزل مسرعة وتصعد جبل المروة، وتفعل ذلك سبع مرّات حتى تمكّن منها التعب وأوشك اليأس أن يسيطر عليها، فبعث اللّه (جبريل) عليه السلام فضرب الأرض بجناحه لتخرج عينُ ماء بجانب قدمي الصغير، فتهرول الأمّ نحوها، تغرف من مائها، وتقول: (زمي زمي)، فسمّيت هذه العين (زمزم). يقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: (يرحم اللّه أمّ إسماعيل، لو تركت زمزم لكانت زمزم عينا معينا)، وقد جعل اللّه سبحانه ما فعلته (هاجر) من الصعود والسعي بين الصفا والمروة من أعمال الحجّ. أمّ العرب عُرفت (هاجر) في التاريخ بأمّ العرب العدنانيين، ومرّت الأيّام حتى نزل على (هاجر) وابنها (إسماعيل) أناسٌ من قبيلة (جُرهم) فقصّت عليهم قصّتها فطلبوا منها أن تأذن لهم بالنّزول قريبا منها ومن البئر، فأستأذنت زوجها فسُرَّ بذلك سرورا عظيما، وعلم أن دعوته بدأت تتحقّق، فأذن لهم شرط ألا يكون لهم على الماء سلطان. أقام الجرهميون قرب الماء فأنست بهم أمّ إسماعيل، وقد منحوا ابنها كثيرا من الماشية وشبَّ بين أبناء قبيلة جُرهم كواحد منهم وتعلَّم اللّغة العربية وكان أوّل من تحدّث الفصحى. لما بلغ (إسماعيل) الثالثة عشر أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يمتحن صدق إيمان أبيه، فرأى (إبراهيم) في المنام أنه يُؤمر بذبح ولده البكر الشابّ وصدّق الرؤيا وقال لولده (إسماعيل): {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى...}، فقال لأبيه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، وأسلما لأمر اللّه وأضجعه على الأرض وأخذ السكّين ووضعها على حلقه، لكن اللّه العزيز العليم ناداه {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ)، ونجا (إسماعيل) {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ). وأمر اللّه (إبراهيم) أن يرفع القواعد من البيت في مكّة، وجاءه (جبريل) بالقواعد من الجنّة، وبدأ (إسماعيل) بنقل الأحجار من ذي طوى وجبل أبي قبيس و(إبراهيم) يبني البيت ويدعو مع (إسماعيل): {ربّنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم)، وعهد اللّه إليهما أن يقوما على خدمته {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُكّع السجود)، وجعله مثابة للنّاس وأمرهم باتّخاذه مصلّى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للنّاس وأمنا واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى). وصية إبراهيم لمّا أحس (إبراهيم) بقرب وفاته أوصى ابنه بأن يقوم بخدمة بيت اللّه الحرام ويدبِّر شؤونه، فقام (إسماعيل) برعاية البيت والسهر على شؤونه، ثمّ إن اللّه نبَّأه وأرسله إلى القبائل العربية التي عاش في وسطها وإلى العماليق وأهل اليمن فدعاهم إلى الإسلام وعبادة اللّه وحده ونهاهم عن عبادة الأوثان، فآمن بعضُهم وكفر آخرون، قال اللّه تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ...}، وهذا ممّا يدلّ على أن دين الأنبياء كلّهم واحد وهو الإسلام. وجاء ذكر (إسماعيل) في القرآن اثنتي عشرة مرّة، يقول اللّه تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّا}. فقد كان (إسماعيل) مثالاً في صدق الوعد أثبت ذلك حين وعد أباه بالصبر على ذبحه وأكرمه وشرفه بالنبوة والرسالة، وكان يأمر أهله بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة حتى بلغ مقاما كريما من رضا ربّه، فأثنى عليه ثناء حسنا ووصفه بالصفات الحميدة والخلال السديدة فوصفه بالنبوة والرسالة والحِلم والصبر وصدق الوعد والمحافظة على الصلاة، مع دعوته إلى عبادة الخالق وحده. وقال ابن جرير إنه وعد رجلا مكانا أن يأتيه فيه، فجاء ونسي الرجلُ فظلّ به (إسماعيل)، وبات حتى جاء الرجل من الغد، فقال: (ما برحتَ من ههنا؟)، قال: (لا)، قال: (إنّي نسيت)، قال: (لم أكن لأبرح حتى تأتيني، فلذلك كان صادق الوعد). وكان (إسماعيل) فارسا، فهو أوّل من استأنس الخيل وكان صبورا حليما، وهو جدّ الرسول (محمد) صلّى اللّه عليه وسلّم، إذ يعود نسبه إليه. مات (إسماعيل) عليه السلام في مكّة المكرّمة بعد أن أدّى رسالة ربّه وبلّغ ما أمره اللّه به ودعا إلى دين الإسلام، ودُفن قرب أمّه (هاجر) في الحجر، وقيل كان عمره يوم مات مائة وسبعا وثلاثين سنة. * كان (إسماعيل) مثالاً في صدق الوعد أثبت ذلك حين وعد أباه بالصبر على ذبحه وأكرمه وشرّفه بالنبوة والرسالة، وكان يأمر أهله بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة حتى بلغ مقاما كريما من رضا ربّه، فأثنى عليه ثناء حسنا ووصفه بالصفات الحميدة والخلال السديدة فوصفه بالنبوة والرسالة والحِلم والصبر وصدق الوعد والمحافظة على الصلاة، مع دعوته إلى عبادة الخالق وحده.