انقلبت الموازين السياسية في منطقة الشرق الأوسط رأسًا على عقب، من دون أن يستطيع أحد أن يفهم من أين وكيف ولماذا ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الإرهابي (داعش) بهذه القوة على الساحة، أما تناقض الآراء ووجهات النظر في الغرب فيرمز إلى قلة الحيلة التي أصبح عليها. أعتقد أن مصطلح “تنظيم إرهابي” يعتبر قليلًا بالنسبة لتنظيم يذبح الصحفيين والمتطوعين في حقل المساعدات الإنسانية أمام عدسات الكاميرات، والآن نرى العالم الغربي يساوره الخوف بعدما وقف موقف المتفرج أمام ممارسات نظام بشار الأسد الوحشية طيلة أكثر من ثلاث سنوات، وهو اليوم يمدّ يده طلبًا للمساعدة من الأسد ومنظمة حزب العمال الكردستاني وإيران لمواجهة خطر “داعش” المتنامي في المنطقة، ويسير نحو ارتكاب أخطاء جديدة لا يعرف نتائجها على وجه التحديد. تركيا حذرة، وهي محقة في ذلك، وكانت الدول الغربية قد انتقدت أنقرة لبحثها عن حل مع نظام الأسد في أول أيام الأزمة السورية، ولم تدعها بمفردها حتى بعد أن تخلت عن الحوار مع النظام السوري، ولأن المنطقة تحوّلت إلى بحيرة من الدماء، فإن الشعب التركي لا يدفع فاتورة هذا من الناحيتين السياسية والاقتصادية فقط، بل إن تركيا مضطرة لاستضافة مليون ونصف المليون لاجئ سوري ومئات الآلاف من اللاجئين العراقيين الهاربين من جحيم داعش، وذلك دون أن تتلقى أدنى مساعدة من الغرب، وهذه الكتلة من اللاجئين، الذي يقترب عددهم من مليوني شخص، ليست مرشحة لأن تتسبب في مشكلة اجتماعية بالنسبة لتركيا فحسب، بل هي مرشحة في الوقت ذاته لأن تتسبب في مشاكل أمنية لا تحمد عقباها. غير أن أنقرة لم يعد أمامها الكثير من الوقت؛ إذ إن العديد من المشاكل التي لم تحلها منذ عقود بدأت تهاجمها كالأمواج العاتية، ومثال على ذلك نذكر مسألة إلقاء حزب العمال الكردستاني السلاح، فما كان ممكنًا بالأمس أصبح مستحيلًا اليوم، وفي الوقت الذي بدأ فيه الغرب يناقش مسألة تسليح حزب العمال الكردستاني، الذي لا يزال مدرجًا على قائمة المنظمات الإرهابية، لمواجهة خطر “داعش”، فإن هذا التنظيم مرشح ليكون أحد عناصر التوازنات الجديدة في المنطقة، وحتى إن منحت تركيا الأكراد جميع حقوقهم السياسية والاجتماعية والثقافية من خلال دستور جديد، فإن مسألة إلقاء عناصر المنظمة السلام ونزولهم من جبال قنديل، التي كانت ممكنة بالأمس، صارت خيالًا لا أكثر ولا أقل، وإذا كانت أنقرة لا تريد أن تدفع فاتورة أكبر جرّاء التأخير، وإذا كانت لا تريد أن تفسح المجال أمام “الخبراء” الذين يجهلون المنطقة ليرتكبوا المزيد من الأخطاء، وكذلك إذا كانت لا تريد السقوط في براثن مخططات الوحدات الاستخباراتية التي لا يعلَم لصالح من تعمل؛ فيتحتم عليها أن تكون عنصراً سياسياً فعالاً، بدلاً من أن تكون مكتوفة الأيدي، وتكتفي ب«أهون الشرور”. كان بشار الأسد، المرشح الآن لأن يكون “أهون الشرور”، قد جرب القبول في الغرب من خلال قضية الأقلية في بلده منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة السورية. وبعدما أدارت الأقليات ظهرها نتيجة العنف، بدأ النظام السوري بقصف المدن ويشيع الأعمال الإرهابية لإثبات وجوده وقوته، ولقد دعمت “جبهة النصرة” في العام الأخير الجماعات الراديكالية التي زادت قوتها بمرور الوقت داخل المعارضة السورية، حيث أرادت إجبار الغرب على قبول الفكرة التي تقول إنها ليست بديلة للسلطة الحاكم في سوريا، وبينما تعرض مركز محافظة حلب التاريخي للقصف، لم تُشن أي هجمات جوية على داعش والنصرة على مدار عامين، ويعرف الغرب هذه الحقيقة من خلال مراقبي أجهزته الاستخباراتية. وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من مقتل نحو 200 ألف شخص بواسطة قوات الأسد، فإن طلب المساعدات من هذا النظام القاتل بصفته “أهون الشرور”، وإن كان حلًا، فإنه جدير بالتفكير مليًا، فالأسد جزء من المشكلة وليس الحل في المستقبل، كما كان مصدرًا للأزمة ومسؤولًا عنها في السابق، وأي وجهة نظر سياسية لا ترى هذه الحقيقة ستدفع فاتورة أكبر غدًا. ثمة فكرة أكثر خطرًا في الغرب ترحب بالتعاون مع النظام السوري، وبالتالي إيران، في الحرب ضد “داعش” بصفتهما “أهون الشرور”، وتعتبر هذه الفكر الإسلام السني مصدرًا للإرهاب الذي تمثله جماعات مثل القاعدة والنصرة وداعش، وتعرض التعاون مع الإسلام الشيعي لمواجهة هذا الخطر، ويرى أصحاب هذه الفكرة النظامين السوري والإيراني كحليفين، حيث بدأت الأصوات تتعالى لمناقشة هذه الفكرة التي تحمل في طيّاتها إمكانية تحويل الشرق الأوسط برمته إلى جحيم، ولا يستطيع أصحاب هذه الفكرة أن يروا أن الملايين من أهل السنة سيهاجرون إلى تركيا التي ربما تتحول بمرور الزمن إلى باكستان جديدة، كما أنها عاجزة عن التخمين بأن علويي تركيا، الذين تعتبرهم إيران كذلك مشكلة في حد ذاتهم، هم الذين سيدفعون فاتورة هذه التطورات. ومما لا شك فيه أن عدد اللاجئين في تركيا سيتضاعف خلال فترة قصيرة ليصل إلى 5 ملايين شخص بعدما اعتُبر الأسد “أهون الشرور” لدى القوى الغربية واكتسب اعتبارًا عندها، وحينها لن تكتفي عناصر “داعش” بالنزول إلى شوارع إسطنبول، بل ستجوب شوارع برلين أيضًا، ولا داعي لأن يشك أحد في وقوع ذلك. العجيب في الأمر هو تغاضي الغرب عن الحديث عن قيمٍ كالديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية ودولة القانون وحرية الإعلام وحق الحياة وما إلى ذلك، أليس انتهاك هذه القيم في الشرق الأوسط هو أساس هذه الأزمة؟!