أي واللّه، لقد كانت لحظة من أعظم اللحظات التي عشناها في مدرج الشيخ عبد الحميد بن باديس بجامعة الأمير عبد القادر، فكانت أول محاضرة للشيخ رحمه اللّه في السيرة النبوية، هزت قلوبنا الشابة هزة عميقة، ولا أزال احتفظ بالكراس الذي كتبت فيه تلك المحاضرة، وسجلت في ختامها تلك اللحظة الإيمانية العظيمة . الحقيقة أن الشيخ رحمه اللّه تعالى لم يكن يملك ماء حبيبتيه لذكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقد يعجب من لم يعرفه حين نقول: إن أشجانه تعتلج في صدره وحزنه يفيض به فيجهش بالبكاء لكأنك أمام طفل صغير فقد عزيزا غاليا على قلبه، في مثل ما ذكرنا، وكذا إذا عرض لمأساة من مآسي الأمة والمسلمين في ماضيها وحاضرها، فقلما تصادف نموذجا للشيخ رحمه اللّه تعالى تهتاج عواطفه وتنسكب دموعه مدرارا كالشيخ رحمه اللّه تعالى، ليس من خشية اللّه فحسب، بل لأحوال أمتنا البائسة. ومما أذكر في هذا الصدد يوما كان يحاضر لنا فعرض لما لقيته محاولات العودة بتركيا لحظنها الإسلامي الدافئ إثر الردة الكمالية، فذكر كيف وصل عدنان منداريس إلى السلطة، فأعاد رفع الآذان على مآذن تركيا، فلما توضح منهجه الأصيل أزاحه العسكر من السلطة، ثم قتل، وحين ذكر الشيخ رحمه اللّه تعالى هذه العبارة انفجر باكيا كالطفل الصغير، لا يكاد يرقأ له دمع !!! ومن المواقف الباكية للشيخ أذكر في ندوة المستقبل الإسلامي رحمه اللّه تعالى يشرح الواقع الإسلامي المضطرب آنذاك بحرب الخليج والغليان السياسي في الجزائر، والتكالب لتقسيم السودان، والحملات المسعورة على إخوان في مصر من قبل نظام مبارك والأحداث العنفية باسم الإسلام، وغيرها من الأحداث الجسام التي ترعرع بتأثير منها بعض النزعات المغالية، وكان الشيخ كأنما يشعر بعمق الخيبة التي آلت إليها الحالة الإسلامية، خاصة لما أخذ الإسلام يعرض على العالم بصورة مغرضة من خلال بعض الأعمال العنيفة والتفجيرات وغيرها باسم الإسلام، وقد علت كذلك أصوات متشددة في أوساط بعض الحركات الإسلامية. أذكر أنه قال العبارة الآتية: (الحمد للّه أنهم لم يصلوا إلى السلطة وإلا لعلقونا على حبال المشانق)؛ قال بأسى وغيض، وبدت كأنما هي ملحة من الشيخ، فانفجر الجميع ضاحكا، ليفاجئهم الشيخ رحمه اللّه تعالى باكيا بحرقة، فانقلب الموقف إلى حالة من الصمت الرهيب. فليرحمك اللّه يا فارس الدعوة وعبقريها، وأعلى مقامك في عليين مع الأنبياء والصالحين. ألست من اختارك اللّه لجواره وأنت على منبر المنافحة عن دين اللّه تعالى إزاء تطاول العلمانيين على دين حبك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟!!