قراءة ما من شك في أن ضعف المقاومة لزحف الهيمنة وعودة الكولونيالية يرجع بالدرجة الأولى لعوامل داخلية عرقلت تقدم شعوبنا وشككت شبابها في حاضر هو ماضيه– (نحن لا نعرف سوى القليل جدا عن المساهمات الكبرى لبلادنا في مساندة إفريقيا جنوب الصحراء ودعم كفاح الشعب الفلسطيني حيث كانت الجزائر قلعته الآمنة تجتاز المنطقة الإفريقية والعالم الإسلامي في أغلب أقطاره، ومنذ أمد طويل، مرحلة حرجة يمكن البحث عن بدايتها في الإنذارات الأولى لتفكك الدولة، وظهور النزعات الاستبدادية، وعجز المجتمع عن إنتاج التقدم في مؤسسات التربية والثقافة والعلوم، والتراجع العام، المصحوب بالغفلة عما يحدث في العالم. أسفر التفكك والتخلف عن حالة من الضعف والتبعية وصلت في كثير من الأحيان إلى الاقتتال القبلي والطائفي، ممّا سمح لجحافل متوحشة ومعادية للإنسانية بالشروع في تدمير مادي ومعنوي واسع النطاق لعواصم كانت مراكز إشعاع حضاري صنعت حداثة عصرها قبل حوالي ثمانية قرون من بداية عصر الأنوار في شمال العالم تقدم وقوة وثروة في تصاعد إلى اليوم، غير أن عصر الأنوار لم يكن كله أنوارا كما يوصف إجمالا، فقد عرف طفرات منذ غاليليوز ودارون؟ وديدرو، ونكسات رهيبة قدم نماذج منها فيلسوف التاريخ المعاصر إ. هوبزباون في دراسته الموسوعية عن النهايات القصوى. ضعف الذاكرة وخمول الإرادة قدم البعض من تلك الجحافل المتوحشة من الشرق (المغول والتتار) وقدم بعضها الآخر من الغرب (الصليبية المتطرفة والدموية المضادة لروح المسيحية السمحاء)، وهكذا تقهقرت المنطقة بأكملها وتحولت إلى فريسة سهلة، وخرجت بالتدريج من موكب المقدمة الذي يصنع التاريخ، ووجدت نفسها في قبضة القوى الامبريالية المتعطشة للتوسع والهيمنة، وفي آخر مواقعها الدفاعية، وتمّ تمزيق إفريقيا ونقل مئات الآلاف من سكانها عبر المتوسط والمحيط وبيعهم عبيدا وسبايا في أسواق ومعارض موسمية للرقيق في العواصم الأوروبية. لا يكفي أن نلوم الآخرين على أفعالهم ونواياهم، بل لابد من أن نعيد قراءة سجل ثقيل، حقيقته الاولى أن التقدم يحدث بواسطة إرادة جماعية تستفيد من تجارب وخبرات الماضي وتنمي رصيدها المعرفي وذلك هو السبل إلى استعادة الثقة في النفس، والتحكم في المستقبل، والانفتاح على العصر بلاعقد ولا تعقيد، بالمشاركة في منجزاته. الوجه الثاني لهذه الحقيقة هو أن التخلف أيضا يتراكم ويتكاثر ثم يتغلغل أفقيا داخل المجتمع ويبطئ حركيته ويقلل من فعاليته كما أنه ينتشر عموديا في مؤسسات الدولة، فتعجز عن أداء وظائفها الحيوية ويستشري فيها الفساد، تشلّ هذه الحالة القاهرة الأمة كلها وتجذبها إلى أسفل، وتسود الرداءة، ويتوزّع الناس بين خائف أو طامع أو راصد لاتجاه الريح، ويتراجع الذكاء والكفاءة ونظافة اليد واللسان إلى الطوابق السفلى في هرم الدولة والمجتمع. في هذه الوضعية العامة تميزت السنوات الأخيرة بتزايد السخط والحيرة وتفاقم الإحساس بالعجز عن تحقيق الطموحات المشروعة لشعوب عانت منذ قرون من الظلم والعدوان والهيمنة الأجنبية، وقدمت منذ الصدمة الأولى مع الكولونيالية في شكليها، الحماية والاستيطان، الكثير من التضحيات في سبيل الاستقلال والحرية، تذرعت تلك الشعوب بالصبر والصمود ولم تنقصها الإرادة والعزيمة، وهو ما يجده الملاحظ النزيه في جزائر المقاومة الشعبية في مجتمع رفضت أغلبيته الخضوع وحافظ على مقوماته الأساسية في مواجهة كل حملات العدوان من الضفة الشمالية للمتوسط، وخاصة أكثرها شراسة، ألا وهو الاحتلال الاستيطاني من 1830 إلى 1962. ثورة التحرير ومشروعها الدائم بلغت تلك الطموحات والآمال الواعدة أوجها مع انطلاق حركة التحرر الوطني في منتصف القرن الماضي، وتوجت بداية عقد الستينيات بانتصار الثورة الجزائرية باعتبارها مشروعا أصيلا ودائما للتحرر والتقدم، هيّأ لنجاح بعض بلدان المنطقة في استعادة ثرواتها الطبيعية وتطهير أراضيها من القواعد العسكرية والأحلاف المشبوهة التي تعيد السيطرة الأجنبيّة بمساحيق تجميلية. وأسفر الكفاح الطويل والمرير لحركة التحرر الوطني عن مكاسب جوهرية، كان من المنتظر أن تستمر على جبهتين: أولاهما: داخلية وحاسمة، وهي تتمثل في تعبئة الجهود للتخلص من التخلف والتبعية واكتشاف الطريق الأسرع والأضمن لتدارك الهوة الكبيرة التي تفصلنا عن الجزء المتقدم من العالم المعاصر. لم يتحقق ذلك بالمستوى المطلوب، أو لنقل حدث بشكل جزئي وعشوائي، ويبدو لنا أنه لن يحدث في المستقبل إلا إذا كان وفق رؤية شاملة ومتكاملة لتنمية بعيدة المدى، وفي مناخ ديمقراطي يرفع الرعية إلى المواطنيّة في دولة يكون الحق فيها حقا وليس منحة، والواجب واجبا وليس عقوبة، وهذا هو جوهر الوطنية والمواطنة، لا يتعلق الأمر بتصور خيالي لمدينة فاضلة، وإنما بأغلبية ترى أن غير ذلك شذوذ يستحق التنديد وتطبيق القانون الذي يحمي حقوق المظلومين بغض النظر عن الاسم والطبقة والمكانة أنظر دراستنا بعنوان: “في أبجديات الديمقراطية” منشورة بتاريخ 20 أكتوبر 2014. إن الديمقراطية ليست مجرد ديباجة وبنود في الدساتير، إنها في بلادنا وفي كل المنطقة الأفروعربية مسألة حيوية،إنها ذلك المناخ الثقافي الاجتماعي الذي يمنع من تجذر التناقضات والصراعات العقيمة التي تجعل بعض النخب تشتبك مع ذاتها ومع الغرب والشرق في معارك جانبية، تكشف في الحقيقة عن حالة القلق والضياع التي تجتازها النخب التي لا تقدم لشعوبها بدائل ذات مصداقية ثقافية سياسية تخاطب العقول قبل العواطف. ليست لنا خصومة أو حساب تصفية مع ماضينا الحضاري في كل أبعاده، إنه هو الذي يخاصمنا وينتظر منا مزيدا من النقد والغربلة والإضافة والتطوير لإيصاله إلى راهنية تضعه في صميم السباق نحو التقدم والرخاء. على هذا الأساس ليس هناك مخاوف من الحداثة والعصرنة الحقيقية التي لا تتوقف عند الاستهلاك الذهني الكسول والإبهة المستعارة، لأن الحداثة أيضا تنتظرنا منذ أمد طويل لكي نتمثل أفضل الموجود فيها، تمهيدا لإنتاجها بعقلنا نحن، وإدماجها في ميراثنا المشترك، باعتبارها امتدادا طبيعيا له، ورافدا نوعيا في التراث الإنساني المتجدد. إن مدح أوسبأ يمنهما– (موروثنا الحضاري والحداثة)– لا يضيف لكليهما شيئا، بل هو ثرثرة وتخبط ناجمان عن حالة الضعف والتخلف، أشبه بالمضاربة والسمسرة في سوق وهمية تدور صفقاتها بين أشباح تعيش على هامش الماضي والحاضر. أما الجبهة الثانية فهي امتداد للأولى، فقد كان من المنتظر أن يتعزز التضامن وتتكاتف الجهود ضد عدو يهدد الجميع هو التخلف والهيمنة الأجنبية التي استغلت بذكاء حالة الضعف والفرقة في السابق وسيطرت على المنطقة وحولتها إلى ملحقات ومخازن للمواد الأولية ونفذت في أجزاء منها مخططات الإبادة والإذلال، ومكنت إسرائيل من بسط نفوذها في المنطقة وخارجها وابتزاز العالم ودفعه للتفكير الدائم عن الشّوا والهولوكست حتى أصبحت كلمة واحدة تنتقد إسرائيل والصهيونية جريمة توصف بمعاداة السامية تستحق أقسى العقاب وتوجب اعتذار أعلى السلطات في معظم البلدان الأروبية والأمريكية. باستثناء فترات قصيرة، فرضتها ظروف خارجية، لم يتم تفعيل المنظمات الاقليمية، وبقي التشاور والتنسيق خاضعا لسياسات آنية، تتعطل، وقد تتحول إلى تنافر وعداء وحروب بينية، أحيانا بسبب التسرع وسوء التقدير، وأحيانا بسبب أخطاء فادحة في فهم ما يعنيه الجوار والتعاون بين بلدان يجمعها التاريخ والثقافة والعقيدة، وتجابه تقريبا نفس التحديات، وتلتقي مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية خارج الوصاية والتوجيه الخارجي. التشتت وأسئلة الساعة لهذه الأسباب وغيرها، بقي العمل المشترك في قطاعات الاقتصاد والمال والتربية والثقافة والبحث العلمي والعلاقات الدولية الخ... أقل من الحد المطلوب، كان من الممكن أن يتسع التعاون والتكامل، لو قام على تحليل سياسي علمي يتجاوز العاطفيات العابرة والمواقف التكتيكية المبنية على مصالح آنية وقصيرة النظر، وانطلق من تثمين جدي للموقع الجيوسياسي الممتاز لمجموع المنطقة الأفروعربية واستثمار مشترك، وطويل المدى للموارد الضخمة المتوفرة في معظم بلدانها، وبناء تفكير استشرافي عن ثوابت القوة في عالم اليوم والغد. من المؤسف جدا أن حركة التحرر الوطني في توجهها الأقرب للشعب والأكثر تقدمية، قد تلقت ضربات قاسية وتمت محاصرتها من الداخل والخارج، وتكالبت عليها القوى الكبرى، بمساعدة من الكمبرادور الذي أظهر قدرة كبيرة على التخفي والتلون والتأثير على صعيد الجبهتين الآنفتي الذكر. استطاع لفيف الكمبرادور “المخازنية” في فترات زمنية وفي أجزاء متفرقة من منطقتنا أن يفرض منطق (أو لا منطق) التخلف والتبعية المهينة،وأن يحتفل بالنكسات والهزائم ويصفها بالتاريخية،على مرأى ومسمع من شعوب لا تصدق ما ترى، وتندفع من بين صفوفها جماعات نحو راديكالية ماضوية، أو انسلاخية بلا مخرج ولا مشروع. ليس لتلك الضربات والتواطآت المشينة تاريخ محدد فقد كان الصراع على أشده خلال كل مراحل التحرير والبناء الوطني وطوال تلك الفترة بقيت دوافع المواجهة وأهدافها واحدة، (كفاح من أجل التحرر وتشييد الدولة الوطنية التقدمية من جهة، ومحاولات فرض الهيمنة والتبعية والتدجين من الجهة الأخرى)، إن الذي اختلف هو اشكال المواجهة ومواقعها وأسلحتها حتى مطلع عقد التسعينات حيث تمكنت القوى الكبرى، بعد الانهيار المفاجئ والسريع للاتحاد السوفياتي، من الاستفادة من خبرتها السابقة بشؤون المنطقة واستغلال الأوضاع السائدة في كثير من البلدان الإسلامية والإفريقية نتيجة ضعف أو تردي وتيرة التنمية، وعدم وضوح العلاقات التي تربط مؤسسات الدولة بالمجتمع، استغلت كل ذلك لتسريع الزعزعة وكسر التضامن، والعودة بالمنطقة إلى وضع قريب مما كانت عليه قبل منتصف القرن الماضي، بل هو في بعض جوانبه أدنى من ذلك بكثير. - كيف وصلت المنطقة الأفروعربية إلى ما هي عليه من ضعف وتشرذم؟ - أين الخلل؟ - هل يعاد ترتيب النظام الدولي في كل مرة في غياب بلداننا، وعلى حساب شعوبنا؟ - ما هو المطلوب من القيادات والنخب ونحن على مشارف نهاية العقد الثاني من القرن الجديد؟ - كيف تستعيد شعوبنا الثقة في قدراتها ومستقبلها وترسخ تضامنها في عالم تقوده الكتل الكبرى، ويتجه نحو التدويل الشامل للاقتصاد والثقافة والإعلام، ويحتكر التكنولوجيا ويفسر الشرعية حسب مصالحه؟ لقد عايش جيل مابين الحربين وطليعته الثورية بمحاسنها وعيوبها انتصارات حركة التحرير الوطني على مستوى المنطقة العربية والإفريقية كلها، وعقد الكثير من فصائلها آمالا كبيرة على ثورة الجزائر جوهرة النضال من أجل العدالة والتقدم والحرية، من الإنصاف – وليس من التنويه فحسب – القول بأن شعبها أنجب من صلبه ثورة أصيلة بمنهج ونظرية يصعب تصنيفها ضمن الايديولوجيات التي تقاسمت العالم أو تشخيصها في قائد أو زعيم أوحد يحتكر أمجادها، ومن المؤسف أن تعود اليوم مناوشات واتهامات أشبه بالمحاكمات بأثر رجعي لقيادات أصابت أو أخطأت فهي ليست من الملائكة ولا من الشياطين، فلم يكن في ثورة التحرير زعيم ولا مجاهد أوحد وننسى أن للثورة مؤسسات وأشخاص يجتهدون في قراراتهم في ظروف حرب تدميرية شاملة، وأن ثورات أخرى تحولت إلى تصفيات على أوسع نطاق وكانت كلها دولا ثابتة الأركان، نذكر منها على سبيل المثال تصفيات المقصلة الفرنسية ومذابح الثورة البولشفية، قد تفعل الدوافع الشخصية بذاكرة الوطن ما لا يفعله به أعداؤه! غير أن التأثر بالتجربة الجزائرية أثناء تألقها، أو من خلال الهزات العنيفة والعابرة التي ألمت بها لا ينبغي أن ينقص من الموضوعية والصرامة العلمية كلما اقتضى سياق الوصف والتحليل التعرض لمواقف الجزائر من القضايا الساخنة في مشرق ومغرب المنطقة العربية الإسلامية وإفريقيا وهما عمقنا الطبيعي. نحن على يقين بأنه لا حاجة على الإطلاق إلى مرافعات عاطفية وحماسيات إيديولوجية عندما يتعلق الأمر بالتوجهات الكبرى للجزائر التي ليس لها “شبكة” حزبية – إيديولوجية، أو “لوبيات” مطيعة في أي بلد من الجوار المغاربي، أو العربي الافريقي الأوسع، إن انتصار الحرية والتقدم في أي بلد من المنطقة وفي إفريقيا وانحسار الهيمنة الأجنبية هو انتصار للجميع، لا يتعارض ذلك في نظرنا مع الوطنية وواجباتها الأساسية. ما من شك في أن ضعف المقاومة لزحف الهيمنة وعودة الكولونيالية يرجع بالدرجة الأولى لعوامل داخلية عرقلت تقدم شعوبنا وشككت شبابها في حاضر هو ماضيه– (نحن لا نعرف سوى القليل جدا عن المساهمات الكبرى لبلادنا في مساندة إفريقيا جنوب الصحراء ودعم كفاح الشعب الفلسطيني حيث كانت الجزائر قلعته الآمنة ومصدر إمداده بما تطلبه قياداته بدون قيد أو شرط من الولاء والخدمة كما هو الحال في أماكن أخرى، ولذلك اختارت قيادته إعلان دولة فلسطين من الجزائر على لسان الرئيس الراحل ياسر عرفات وقبل ذلك قام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وهو وزير للخارجية بتقديم عرفات على منصة الأممالمتحدة ليخاطب العالم ويدافع عن قضية شعبه المظلوم، فضلا عن دعم الجزائر لحركات التحرر بعد الاستقلال ومساعدة البلدان الإفريقية في مجالات التكوين والاستثمار، ومسح ديون سبعة دول إفريقية بدون إشهار أو المطالبة بمقابل، نعرف أن بعض الأوساط النوستالجية التي تراودها أحلام الإمبراطورية تضع تلك المآثر في بطاقة السوابق العدلية. من أخطر تلك العوامل الصراعات المدمرة القائمة اليوم في كثير من مجتمعاتنا حول الإسلام دين التوحيد والوحدة الذي نص على حرية الاعتقاد ورفض الاكليريكية وحث على احترام حقوق الأقليات (أهل الذمة أي العهد بالحماية) وجعل التسامح والتواضع علامة على التقوى وهي أرقى أشكال الإيمان. نلاحظ في هذا السياق أنّ جرائم إرهابية معزولة قام بها مهوسون ضد صحيفة على وشك الإفلاس، اعتبرها البعض تهديدا خطيرا للإسلام واستفاد منها التكتل الغربي (المسيحي) في سياساته الداخلية وللتخويف من الإسلام والمسلمين العاديين مع العلم أنّ الإسلام جاء قرونا عديدة بعد اليهودية والمسيحية، ومجّد كل الأديان السماوية ولا علاقة له بالأثنية واللون والثروة واللغة، وكان من المنتظر احتقار الاستفزاز وتمجيد كل الأنبياء بما فيهم المسيح كما جاء في القرآن الكريم. لقد كان المستفيد الأول هو المتطرفون وإسرائيل التي حولت الحادثة إلى ابتزاز باسم معاداة السامية وتحريض اليهود على الهجرة والاستيطان، أما المتهم فهو جاهز بسبب اسمه أو لونه ويحاسب على ما ينسب إليه من نيّة الإرهاب- (التجريم بالنية قبل الفعل)- أو تقصير في الاندماج الثقافي في بلاد التعدد والحقوق. أغلب ظننا أن وراء الكثير من تلك الصراعات خطّة مبيتة لتثبيت التخلف وتجريد بلداننا من مرجعية روحية انسانية لا علاقة لها بالجنس (Race) وتتكيف بسهولة مع خصائص الثقافات المحلية لكل الشعوب، الهدف هو اشغال فئات من المجتمع بعضها ببعض وفتح الطريق لقوى خارجية لتساعد البعض على مواجهة البعض الآخر قبل ابتلاع الجميع. خلاصة ليس للسطور السابقة علاقة بالتشاؤم والتفاؤل ولا تنطلق من أي انتماء إيديولوجي مغلق من اليمين أو اليسار فإذا كنا نعتبر أن الإيديولوجية الماركسية هي موقف فلسفي يقترح حلولا لأوضاع سائدة في أزمنة وأمكنة معينة تقتضي إعادة ترتيب العلاقات وأدوات السلطة داخل المجتمع وعلى مستوى العالم، فإننا نلاحظ فشلها في المجالين السابقين وتراجعها “ على رؤوس الأصابع” بعد أكثر من قرن من التنظير والتطبيق. غير أن تراجع وفشل النظريات الماركسية لا ينسينا إسهامها الكبير في المعرفة الإنسانية ومناهج البحث في العلوم الاجتماعية وفي الآداب والفنون، كما أنه لا يدفعنا إلى التهليل السطحي لانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، فنحن نعتبر ذلك في المستوى الجيواستراتيجي وعلى ضوء مصالحنا الحقيقية من كوارث النصف الثاني من هذا القرن. لقد حرم ذلك الانهيار الرهيب العالم الثالث والمنطقة العربية والإفريقية بوجه خاص من دعم– (أيا كانت دوافعه)– خفف من ضغط المعسكر الغربي الذي بقي كتلة متماسكة إلى اليوم. كما أننا لسنا مع الغرب ولا ضده، لا ينكر منجزات الغرب العلمية والفلسفية والأدبية والفنية الممتدة على حوالي أربعة قرون سوى أولئك الذين فقدوا حاسة البصر وخانتهم الهمة والبصيرة، نقدنا للغرب يتوقف في ما نسميه المنازعة أي طريقة تعامله معنا باعتبارنا موضوعا للاستغلال والاستعمار والرازيا وإلزامنا بالاندماج السلبي في خرائطه الذهنية ونماذجه الاقتصادية والثقافية، ولذلك من حقنا أن لا نقبل من جهة التقوقع وخطاب الكراهية والنفاق، ولا نرضى من جهة أخرى بالترديد الببغائي لكل ما يقوله الغرب لنا وعنا ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ولا نطمئن لشعارات ثقافية تمجد الأمركة والفرانكفونية والانكلوفونية التي تزعم أنها قامت بتحضير شعوب بدائية وهمجية لفرض إشراف ووصاية سياسية على بلداننا ونخبها، ولانطمئن أكثر لدعوات التبشير بالفتوحات اللبرالية المتوحشة أو الطوباوية التي تستهدف اقتحام أسواقنا واستنزاف ثرواتنا عن طريق الشركات المتعددة الجنسيات بأقل مقابل وبلا حدود ولا قيود في منافسة غير متكافئة،لا اليوم، ولا في الأفق المنظور. إن الذي نؤمن به ونتبناه عن قناعة هو المصالح الدائمة لشعوبنا أيا كان الطرف المقابل، وتشييد ثقافة بنظام للتربية والتكوين والبحث العلمي، ثقافة تتجدر فيها قيمنا التاريخية الأكثر إيجابية وتنبت في تربتها الخصبة ديمقراطية تنشر الحرية والعدالة والتقدم وتعزز التضامن بين بلداننا وتدفعنا إلى المشاركة في الإجابة على التحديات الحقيقية التي يطرحها عصرنا وهي السلام والأمن والرفاهية لشعوبنا العربية والإسلامية والإفريقية ولسكان المعمورة في قاراتها الخمس.