بداية، من المهم تثمين التصريحات الأخيرة لوزير الشؤون الدينية والأوقاف، التي كشف فيها عن نيّة الدولة الجزائرية أخيرا في استحداث منصب مفتي للجمهورية إضافة إلى منصب مفتي لكل ولاية؛ وإن كانت عملية التعيين والتنصيب– حسب تصريحات الوزير– ستطال في البداية منصب المفتي على مستوى الولايات قبل منصب مفتي الجمهورية. ومع الإقرار بتأخر الجزائر في اعتماد هيئة وطنية رسمية للإفتاء (هيئة الإفتاء الوطنية) والإفراج عن مشروع مفتي الجمهورية ومفتي لكل ولاية؛ إلا أن هذه الهيئة الإفتائية أو المرجعية الدينية في شقها المؤسساتي (المرجعية الدينية المؤسساتية) صارت ضرورة وحتمية أكثر من أيّ وقت؛ أما كونها ضرورة: تُمليها تحديات واقع عالمي وإقليمي لا يرحم، يشهد تجاذبات فكرية وصراعات إيديولوجية عنيفة غاية في الخطورة، وانزلاقات مؤسفة في الفهم السلبي لمُعطيات الواقع وطرائق (سبل) إصلاح مشاهده وتغييرها، كلّ ذلك ألقى بظلاله على الوضع الديني في الجزائر. هذا الوضع الهشّ جعل الجزائر مرتعا خصبا ومجالا مناسبا لكلّ فكر وافد خداج وإن تلفّع بمروط الإسلام وتزيّا بعباءته، فضلا عن حركية التنصير وانتهاكات حرمة الدين المتكرّرة على غرار انتهاك حرمة شهر رمضان علانية دون رادع قانوني أو وازع شرعي، هذا كله مع تقديري الشديد لجهود نخبنا وعلمائنا ومشايخنا وأذكياء وأعلام أمتنا في مجال التغيير والإصلاح الإيجابيين، وترسيخ قيم الدين والتربية والأخلاق، ونشر العلم الصحيح والمعرفة النافعة. وأما كونها حتمية: فإني أعتقد جازما أنه من غير اللائق بدولة كالجزائر أن لا تحتكم على مؤسسة أو هيئة دينية رسمية تُعنى بالفتوى الشرعية وترعاها، يُراجعها المواطن الجزائري في نوازله وما يستشكل عليه من مسائل، ويفخر معها بجزائريته وانتمائه لأمته وعلمائها الأقحاح، على اعتبار أن حركية الإفتاء كوظيفة دينية رسمية ترعاها الدولة بنفسها؛ حتى تُحقق بها مقاصد التشريع الإسلامي والتشريع القانوني- على حدّ سواء- في رعاية حقّ المواطن في معرفة أحكام دينه، والتعبّد بها في خاصة شؤونه وعلاقته مع خالقه، وفي إطار علاقاته الاجتماعية مع غيره. كذا أعتقد اعتقادا راسخا بأهمية المرجعية الدينية في شقها المؤسساتي في حفظ الأمن الفكري لأمتنا، خاصة أمام تحدّيات ظاهرة العولمة الإعلامية والاتصالية في شقها الدّيني التي ألقت بظلالها حتى على مجال الإفتاء، فصرنا نرى ونسمع فتاوى مُقتضبة سريعة عبر وسائل الإعلام والاتصال الحديثة لا تُراعي أحيانا متغيرات المجتمع الجزائري (متغير الزمان والمكان والحال)؛ هذه المتغيرات التي تُمثل واقع المجتمع الجزائري بحدوده الثلاثة: الحالية والزمانية والمكانية، وبأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. في هذا المقام، نجد أن أيّ هيئة للإفتاء تتأسّس في أيّة دولة من دول عالمنا الإسلامي هي أقدر على معرفة ما يتناسب مع حال أمتها وخصوصيات مكانها وزمانها، وما يتصل بها من فقهِ واقعِ مشاهدها ونوازلها ومعرفة عوائدها وأعرافها، أو ما عبّر عنه الإمام أحمد بن حنبل في سياق ذكره لخصال من تنصّب لوظيفة الإفتاء وتهيّأ للفتوى بقوله: “..الخامسة: معرفة الناس”. [أنظر: ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين، 6/ 105-106، ابن عقيل: الواضح في أصول الفقه، 5/ 460-461]. قال العلامة ابن قيم الجوزية في تعليقه على هذا الشرط: “وأما قوله: الخامسة: معرفة الناس؛ فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإنْ لم يكنْ فقيها فيه فقيها في الأمر والنهي، ثم يُطبّق أحدهما على الآخر وإلا كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح، فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر له معرفة بالناس تُصوّر له الظالم بصورة المظلوم وعكسه والمحق بصورة المُبطِل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصوّر الزنديق في صورة الصديق والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعُرْفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعُرفياتهم، فإن الفتوى تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان والعوائد والأحوال وذلك كله من دين اللّه، كما تقدّم بيانه، وباللّه التوفيق”. [أنظر: ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين، 6/ 113-114]. في سياق ما تقدم من نقولٍ عن الإمامين أحمد وابن القيم؛ من الواضح أن لكلّ أمة خصوصيات وواقعا معيّنا يفرض منطقه على نحوٍ يتطلّب معه الإفتاء بما يتلاءم مع مُتغيّراته. هذا الواقع الذي يختلف من دولة إلى أخرى ومن أمة إلى أخرى، وهو مطلب مرعيٌّ فيمن يتصدّى للإفتاء، سواء كان شخصا طبيعيا (مُفتي الدولة أو مُفتي الولاية) أو كان شخصا معنويا (هيئة الإفتاء بمختلف عناوينها ومُسمّياتها)، فما يصلح الإفتاء به في دولة وأمة بعينها لا يصلح أو يستقيم إسقاطه على واقع دولة أخرى كالجزائر مثلا. ومن ثمّ يتعيّن لزاما أن تستقلّ الجزائر بمؤسستها وهيئتها وأشخاصها الإفتائية، وأن تتخلص من تبعية الإفتاء غير المُعلنة التي غيّبت نُخبنا وأعلامنا، حتى صار أغرار الأناسيّ وذراريهم يتهكّمون ويزعمون: أنْ ليس في الجزائر علماء!! وقد حزّت في نفسي هذه التهمة الشنيعة التي تتكرّر من أبناء أمتنا وغيرهم فكتبت مقالي: “إشكالية المرجعية الدينية في الجزائر”، أكدّت فيه أن الجزائر بلد العلم والعلماء لكنّ عددا منهم مُغيّب لسبب أو لآخر، وقد تحدّثت عن بعض أسباب التغييب والتهميش في مقال عنونته بعنوان: “تغييب العلماء وأهل الذكر العلمي”. لا ينبغي لدولة كالجزائر بلد العلماء أن تصنع الاستثناء وتظلّ دون مرجعية دينية مؤسساتية على غرار غيرها من الدول الإسلامية التي أسّست مرجعياتها منذ عقود طويلة منها ما جاوز القرن؛ مرجعية دينية مؤسساتية أقدر على تقدير ما يصلح من الفتاوى مع نوازل الأمّة الجزائرية، وتنوير الشعب الجزائري وإفادته بأحكام دينه بلسان علماء بلده. ولست أُقلّل من شأن المجالس العلمية التابعة لمديريات الشؤون الدينية والأوقاف على مستوى ولايات الوطن، ودورها الإيجابي والفعّال في تعزيز حركية الإفتاء، كذا دور مؤسسات الإعلام (الإذاعة والتلفزيون) في الإجابة على أسئلة المتفاعلين مع ما يُذاع من برامج الإفتاء. لكن أرجع وأؤكد أن هذا لا يُغني عن تأسيس مرجعية دينية مؤسساتية (هيئة وطنية للإفتاء) تجمع خيرة علماء الأمة وأقدرهم على إيجاد حلولٍ لنوازل الأمة، تجمع النخب المتخصصة في مجال العلوم الإسلامية وما يتّصل بها من علوم أخرى (اقتصاد، اجتماع، قانون، طب..) والمؤهلة علميا والمقتدرة أكاديميا على إصلاح حال الأمة والنهوض بشؤون الدولة، وغلق باب الفتوى الوافدة والمضطربة التي تفتقر في بعض الحالات إلى الدليل الشرعي، أو لا تخدم واقع أمتنا ولا تُراعي مُتغيرات حالها ومكانها وزمانها وعوائدها وأعرافها.