عندما يغيب النقاش الوطني الجاد حول الإعلام في المجتمع ومستقبل مؤسساته. ويُترك قطاعه للفوضى والتَّسيُّب، يكاد المرء أن يصاب بالإحباط. فتزداد حاجته إلى معرفة كيف تصرّفت الدول والأمم الأجنبية وتتصرف مع وسائل إعلامها، خاصة تلك التي خرجت منهكة من حرب مدمرة كادت تعصف بوجودها أو خضعت لحكم استبدادي ردحا من الزمن. لقد بدأت الصحافة في أوروبا والولايات المتحدة تعاني من أزمة قبل بداية انتشار الإنترنت، وتفاقمت بعد أن اتسع استخدامها. ووجدت الكثير من الصحف نفسها مضطرة للحسم في أحد اختيارين أحلاهما مر: البقاء مستسلمة لأمر الواقع، ومراقبة التراجع الكبير في عدد قرائها لتعلن إفلاسها، أو تتبنى استراتيجية مقدامة تقوم على الاستعانة بشبكة الإنترنت. لكن تجسيد هذه الاستراتيجية يتطلب أموالا لاستثمارها في اقتناء التكنولوجيا المتطورة. وهذا يجر الصحف إلى المزيد من الاستدانة لمواكبة التطور التكنولوجي. وقد تجبرها أزمتها على التأخير في تسديد ديونها فترتفع خدماتها، ساعتها يكون نصيب مسعاها الإفلاس! لذا فكرت بعض الدول في العديد من الصيغ لمساعدة الصحف من أجل إنقاذها من الإفلاس. فمنحتها إعانات في إطار بلوري من الشفافية، وتحت مراقبة الهيئات المنتخبة والمؤسسات المالية، من أجل امتلاك التكنولوجيا المتطورة، وإنشاء منصات رقمية لنشر محتوياتها عبر مختلف الحوامل: الكمبيوترات، واللوحات الإلكترونية، والهواتف الذكية، وتأهيل صحافييها للكتابة الرقمية والسيطرة على تقنيات صحافة الإنترنت، أو تقديم قروض دون فوائد أو بنسبة زهيدة. لقد أضحت الصحف الورقية المنتج الوحيد غير المجاني في عالم الإعلام تقريبا. واطلاع المرء على الأحداث الوطنية والدولية لم يعد يشترط اقتناء الصحيفة. لذا تناقص عدد قرائها بسرعة إلى درجة أن القارئ الذي يتقدم به السن ويقضي نحبه لا يُستخلف، على حد قول صاحب كتاب نهاية الجرائد برنار بوليه. وفي خضم سعي الصحف للتقليل من وتيرة هذا التناقص بعد أن تعذر عليها توقيفه، أعادت بعض الدول النظر في منظومة توزيع الصحافة، وابتكرت أساليب متطورة لحث تلاميذ الثانويات على قراءتها. إن تمسك الدول الأوربية تحديدا ببقاء الصحف والخوف عليها من الاندثار، نابع من إيمانها أنها سلاح الديمقراطية الذي استخدمته البشرية منذ قرون، ومن اعتقادها أنها ضامنة حرية الفكر وتعدديته. لهذا الغرض وجهت الدول إعاناتها بكل شفافية للصحف، مقابل التزام هذه الأخيرة بالسهر على ضمان حرية التعبير في المجتمع، وتطوير الصحافة المتخصصة في الفنون والآداب والعلوم، وتلك الموجهة للأطفال وللصحف المحلية. وسخّرت عائدات الإعلان لتحقيق هذا الغرض. إن المنافسة الشرسة بين القنوات التلفزيونية والإذاعية في ظل هيمنة اقتصاد السوق، وتعسف الحكومات المتعاقبة التي أفرزتها صناديق الانتخاب في استخدام وسائل الإعلام، كلها عوامل دفعت الدول إلى تعزيز حصانة القنوات التلفزيونية التابعة لقطاع الدولة، وتمكينها من القيام بالخدمة العامة، بدءًا بتحقيق استقلاليتها عن كل وصاية، وتقديم شبكة من البرامج التي تخدم التعددية الثقافية والسياسية واللسانية، وتساهم في تطوير الثقافة الوطنية، ومساءلة مسؤوليها من قبل الهيئات المنتخبة عن مدى تنفيذ هذه الخدمة، وعن مآل الإمكانيات المادية التي منحت لها. ليس هذا فحسب، بل إن السلطات العمومية التزمت بمرافقة القنوات التلفزيونية في نقلتها الرقمية. وشجعتها على الانفتاح على المواطنين والناخبين، ولعل أسطع مثال على ذلك يكمن فيما تخوضه هيئة الإذاعة البريطانية من تجارب في مجال بث برامجها أو مقتطفات منها، بشكل مباشر أو استدراكي، عبر مختلف الحوامل الرقمية، وابتكار أشكال التّشارك مع ما أصبح يعرف ب“صحافة المواطن”، عبر الاستعانة بمستخدمي الإنترنت في تغذيتها بالأخبار والمواد السمعية البصرية، وتشكيل فضاءات للنقاش والحوار. إن وضع وسائل الإعلام لا يهم السلطات العمومية وحدها ولا يخص الصحافيين فقط، بل يهم المجتمع أيضا. لذا تخلت الدولة عن الإشراف على وسائل الإعلام وتأطيرها سياسيا، وأوكلت المهمة للهيئات التي تمثل الناخبين والقضاء للفصل في حالات القذف والتشهير، والامتناع عن نشر حق الرد دون مانع قانوني. وحثت على إنشاء مجالس الصحافة التي تحولت إلى محكمة شرف للبتّ في خصومة وسائل الإعلام أو خلافها مع جمهورها. وأصبحت الصحف تتفاخر بحصولها على أقل عدد من شكاوى قرائها أو منافسيها من الصحف لدى هذه المجالس. والتفاخر لا يستمد من فراغ، بل يبنى على التزام كل مؤسسة إعلامية بميثاق شرف المهنة الذي صاغته هيئة تحريرها. وإن كان وضع وسائل الإعلام في بلدنا يَسُرُّ البعض لأننا لم نقلّد غيرنا فيما ذكرنا أعلاه، فإن الكاتب الألماني جورج ليشتنبرج يعلمهم أن القيام بعكس ما هو معمول به يسمى أيضا تقليدا. إنه تقليد ما هو مضاد!