هل سبق لك أن ولجت موقعا إلكترونيا للصحف العالمية أو موقعا للقنوات التلفزيونية الأجنبية الكبرى على شبكة الأنترنت؟ ألم تلاحظ أنها أصبحت تعتمد كثيرا على ما يسمى ''الأنفوغرافيا'' بكل أبعادها الجمالية والبيانية، بمعنى أنها تتناول الكثير من المواضيع بواسطة الخرائط المتحركة والرسوم البيانية والمجسمات التفاعلية؟ قد تنبهر في البداية، ثم تتيه في الأشكال والألوان والحركة، لكنك ستتعوّد عليها بسرعة، وقد ترتاح لها، وربما تسأل عن سبب وجودها وآفاق تطورها. والإجابة عن هذا السؤال يقدّمها المختصون الذين يخبرونك أنك شرعت في التعامل مع ضرب جديد من الصحافة الذي سيكون له شأن كبير في المستقبل، إنه صحافة البيانات أو المعطيات، وهي ترجمة حرفية للمصطلح الإنجليزي ٍَّىٌفَُِّْيفُّف التي يصنفها بعض المختصين في خانة الصحافة الجديدة، ويرى البعض الآخر أنها نوع صحفي جديد، يستعير من صحافة الاستقصاء والبحث السوسيولوجي أدواتهما. ولدت هذه الصحافة في 6002 على يد الأمريكي أندري هلوفيتي، الذي جمع بين مهنتي الصحافة وتطوير برامج الكمبيوتر. ويرى روّاد هذه الصحافة أن المرء في العصر الرقمي يكاد يغرق في سيل البيانات والمعلومات والأخبار المتدفق من مصادر لا حصر لها، وأن المشاكل والظواهر المعاصرة تزداد تعقيدا، ويستعصي على الكثيرين فهمها. وهذا ما أدى، حسب الصحافية كارولين غولار، إلى بروز مطلبين أساسيين جديدين في عالم الصحافة، وهما: ضرورة غربلة البيانات المتعلقة بهذه الظواهر واستخراج ما ينفع الجمهور، وتوفر الخبرة التي تسمح باستخراج المعنى من الكمّ المتراكم من البيانات والمعلومات ذات الصلة. فجاءت صحافة البيانات لتلبية هذين المطلبين، وقد تجسدت عبر قيامها بالعديد من العمليات المتداخلة: جمع البيانات وفحصها ومقارنتها، وتحليلها، واستخدامها لصياغة سيناريو يتجسم مرئيا عبر أشكال وخرائط ورسوم بيانية، تسمح بعرض الأفكار الأساسية التي يمكن استخلاصها من المعطيات حتى يفهمها الجمهور بيسر. ترتكز الصحافة الكلاسيكية على القص أو السرد أو رواية الأحداث والتعليق عليها، بينما تستند صحافة المعلومات إلى المعطيات. فالمنطق الذي تشتغل عليه الصحافة الكلاسيكية، حسب الصحافية ذاتها، هو المنطق اللفظي الذي يتجلى عبر اللغة واللعب بالألفاظ في العناوين، والمقدمات المبتكرة، والخاتمات المدهشة. بينما تعتمد صحافة البيانات على المنطق المرئي الذي تعبّر عنه ''الرسوم الغرافية'' التفاعلية. فالمواضيع الدسمة والظواهر المعقدة، مثل ارتفاع البطالة خلال عقدين من الزمن، أو الخريطة الجغرافية لتراكم ديون العالم الثالث طيلة سنوات ممتدة، أو استفحال الجريمة في بلد ما، تتحوّل إلى مجموعة من الرسومات البيانية التي تفصح عن معانيها الأساسية، وتُمَكّن مستخدم شبكة الأنترنت، المستعجل في أمره، من الوصول إلى أهم النتائج من تحليل المعطيات المتعلقة بهذه الظاهرة أو تلك. وتزوّد كل مستخدم بالأدوات التقنية التي تسمح له بتحديد ما يميل إلى فهمه أكثر في هذه الظاهرة، مثل تكبير بعض أجزاء من الخريطة أو الرسم البياني، والنقر على الوصلات الإلكترونية للحصول على المزيد من الشرح والتفصيل. لكن، نعتقد أن قوة هذه الصحافة الضاربة تتمثل في استثمار جهد متصفحي مواقعها الإلكترونية، من خلال إشراكهم في تقديم الاستنتاجات من عرض البيانات. هذا ما قامت به صحيفة ''الغاردين'' البريطانية التي عرضت 854 ألف صفحة من فواتير النفقات الشخصية لنوّاب مجلس العموم البريطاني، والتي سدّدها دافع الضرائب في بريطانيا، وهو عدد ضخم من الصفحات يصعب التعامل معه، فطلبت من زوّار موقعها المساهمة في استخراج دلالات هذه الفواتير. وبعض وسائل الإعلام، مثل قناة ال''بي بي سي'' البريطانية، وصحيفة ''نيويورك تايمز''، والإذاعة الوطنية العمومية الأمريكية، شرعت في إنتاج البيانات بمساعدة زوّار موقعها، ووضعتها تحت تصرّف كل من يرغب، قبل أن تعالجها وفق منطق صحافة البيانات. يعتقد بيار موني، وهو أحد الباحثين الجادين المهتمين بتكنولوجيا الاتصال، أن صحافة البيانات ستنقل الصحافة من الخطاب إلى المعلومات، وبهذا، فإنه يتنبّأ بزوال صحافة الخطاب. لكن، ما معنى الخطاب الذي تحدث عنه هذا الباحث؟ هل هو الدعاية؟ هل هو الثرثرة؟ إذا كانت الإجابة بالنفي، فيمكن التنبيه إلى أن المعلومات، أيضا، تنتج خطابها.