تغيرت علاقة المشاهدين بالأحداث والزمن بظهور القنوات التلفزيونية الإخبارية في الثمانينيات من القرن الماضي. فلم يتزايد عدد الأخبار التي أصبحت تبث على مدار الساعة فحسب، بل تسارع إيقاع بثها بالاستخدام المكثف للبث المباشر أو الحي لما يجري من أحداث. والنتيجة أن ما يجري في هذه المنطقة من العالم أو تلك تدوّل (أي أصبح حدثا دوليا) بفعل البث الفضائي المباشر. وأضحت كل الأخبار مستعجلة وتُحظى بأولوية البث. فهذه القنوات التلفزيونية عجلت في الزمن وكثّفته، ففاض بالأحداث والمواقف المعلن عنها. وقد وصف الكاتب جيل فنشيلستن الوضع الذي آل إليه الزمن، في ظل تزايد القنوات التلفزيونية الإخبارية، ب ” ديكتاتورية الاستعجال”. ورأى تبعاتها في عبادة الحاضر. عبادة تشجع نسيان الماضي، وعدم التفكير في المستقبل، والشغف بالآني فقط. والحاضر في ممارسة القنوات التلفزيونية الإخبارية يملك من الاستمرار ما يجعله ”حاضرا دائم الامتداد”! هكذا تحول التلفزيون إلى أول وسيلة إعلامية قادرة على تجسيد آنية الأخبار، أي نقل الأحداث في أثناء حدوثها وتحويلها إلى أخبار. فأضحى مصدرا إخباريا لبعض وسائل الإعلام الأخرى. وبهذا، ألغى القاعدة التي كانت تحدد أدوار وسائل الإعلام التقليدية، والتي تنص على أن الإذاعة تعلن وقوع الأحداث والوقائع، والتلفزيون يظهرها ويجعلها مرئية، والصحف تشرحها وتحللها. وبرز، عبر الشرح والتحليل، منطق تعامل القنوات التلفزيونية الإخبارية مع السياسة والذي يبدو أنه يتضمن مفارقة. لقد شرعت في بث خطاب السياسيين كاملا في أثناء عقد الندوات الصحفية أو التجمعات السلمية أو المسيرات أو المهرجانات. وذلك نظرا لامتداد مدة البث التلفزيوني الذي لا يتوقف أبدا. فجمهور التلفزيون أصبح أكثر إطلاعا على مواقف الأحزاب السياسية من هذه القضية أو تلك، خاصة بعد أن أصبحت تتبع ببرامج للتعليق على هذه المواقف أو نقدها من جهة، ومن جهة أخرى، بدأ هذا الجمهور يتململ من تكرار بث هذا الخطاب. التكرار الذي يعطي الانطباع بأنه لم يوجد سوى لملء الفراغ. لذا اتجه الجمهور إلى مشاهدة برامج تلفزيونية ”غير سياسية”، مما دفع القنوات التلفزيونية إلى الانتباه أكثر لخطاب السياسيين قصد اصطياد الجمل المكثفة والمعبرة وذات الإيقاع القوي أو التي تنتج صورا بلاغية أو رموزا دالة. وهذا ما أدى بالأحزاب السياسية وقادتها إلى الاستعانة بخبراء التسويق السياسي من أجل صقل خطابهم السياسي الموجه للناخبين وتكثيفه ليتحول إلى جمل مختصرة وشعارات تضاهي في إيقاعها واختزالها النص الاشهاري. واستثمرت في الإثارة فاختزلت الفعل السياسي في استعراض ينشد الفرجة. بعد أن احتل الموضوع السياسي مكانة الصدارة في برامج القنوات التلفزيونية الإخبارية إلى درجة أنها أضحت قنوات سياسية بامتياز، اهتمت بقية القنوات التلفزيونية بالشأن السياسي أكثر. وأعادت النظر في بنية برامجها السياسية وفي أهدافها. فحولت السياسة إلى علاقة فردية ومباشرة بين المرشح للانتخابات والجمهور، وحلت الصورة محل النقاش، والوعود بديلا للبرامج، واستطلاعات الرأي عوضا عن المواطنين، وجمع المشاهدين محل الرأي العام، حسب ما ذهب إليه الفيلسوف ”برنار ستيغلر” في كتابه الموسوم ”سلطة التلفزيون ضد الديمقراطية”. وبعد أن تزايد نفور قطاع واسع من المواطنين في الدول الغربية من السياسة وتناقص عدد المصوتين في الانتخابات، بدأ التفكير في الأسباب وطُرح السؤال التالي: ماذا فعل التلفزيون بالسياسة؟ وقد استخلصت الكثير من القنوات التلفزيونية دروسا من الإجابة عن هذا السؤال. فأقحمت النقاش السياسي في البرامج الترفيهية سواء باستضافة رجال السياسة ودفعهم لإبداء الرأي في المواضيع التي يبدو أنها بعيدة عن السياسية، أو من خلال مناقشة ما نشروه من كتب بأسلوب أقرب إلى الهزل من الجد من قبل ضيوف البرامج وصحفيين ذوي توجهات سياسية متباينة. والنتيجة أن هذه البرامج أنضجت النقاش العام حول القضايا الحساسة، مثل: الموت الرحيم، وترخيص بيع المخدرات الخفيفة، والبطالة، والضمان الاجتماعي، والطاقة النووية، والتقاعد، والهجرة وفرضتها على جدول أعمال الهيئات المنتخبة، مثل البرلمان، ومجلس الشيوخ. أعتقد أنه لا مبرر لطرح السؤال المذكور أعلاه على القنوات التلفزيونية في العديد من بلدان العالم الثالث، لأن السياسة في هذه البلدان لا تعني ممارسة السلطة أو فن إدارة الشأن العام أو تنظيم العلاقة بين المواطنين في ظل التعددية وفق مطلب الحرية، كما تبّين ذلك كتابات الفيلسوفة ”حنا آرنت”، بل تدل على الدهاء والمكر والخداع. ولأن القنوات التلفزيونية، بصرف النظر عن مواقفها، عرت خواء الخطاب السياسي وسطحيته وحتى سذاجته. لذا لابد من استبداله بسؤال آخر: ماذا فعلت السياسة بالتلفزيون أو بالأحرى ماذا بقي في التلفزيون بعد أن اغتصبته السياسة؟