حسب شهادة الحاج لخضر التي رواها للطاهر زبيري، فإن عجول قال لبن بولعيد “النظام لن يعطيك الثقة إلا بعد ستة أشهر”، فلماذا سلم عجول قيادة الولاية الأولى لبن بولعيد بعد أربعة أشهر وليس ستة أشهر كما تنص قوانين الثورة؟ لما بعث عجول الرسائل إلى مسؤولي النواحي، قال لهم “بالنسبة للسجناء الفارين من الكدية يطبق عليهم القانون”، دون ذكر اسم سي مصطفى بن بولعيد، فلما سمع سي مصطفى هذا الكلام يمكن أن يكون تأثر وتساءل “كيف يشك عجول الذي كان رفيقي في تأسيس التنظيم السري بأنني سأصبح عميلا للاستعمار الفرنسي؟”، فما قاله سي مصطفى للحاج لخضر كان قبل الاتصال بعجول، ولم يقلها عجول له وجها لوجه، كما أن سي مصطفى لم يتعجل ويحرج عجول بالذهاب لاستلام القيادة بل انتظر أربعة أشهر، وعجول لم يطبق التعليمة بصرامة على سي مصطفى بن بولعيد، ولو طبقها لألزمه انتظار المدة المقررة بستة أشهر، فالاثنان لم يحرجا بعضهما وتصرفا بحكمة وذكاء. عندما فرّ بن بولعيد من سجن الكدية، توجه مباشرة إلى منزله لتفقد عائلته وأولاده (في آريس)، ثم التحق بالجهة الغربية التي يتواجد بها أهله وعرشه في الجبل الأزرق، وهذه المنطقة كانت تحت قيادة شقيقه عمار، رغم أنه كانت هناك قيادات في المنطقة لا تخضع لنفوذه كالحاج لخضر الموجود في باتنة. وبعد فرار سي مصطفى من السجن، انضم إليه الحاج لخضر ورافقه إلى مركز القيادة، وفي الطريق أسرّ له بن بولعيد بذلك الكلام (النظام ستة أشهر ما يعطيكش الثقة). رواية أخرى تتحدث أن عجول كان منزعجا من اتصال قادة في الأوراس بسي مصطفى لتهنئته بالنجاة وتجديد الولاء له، ضاربين تعليمة عجول بعرض الحائط، ما يعني أن عجول وافق على تسليم القيادة لبن بولعيد مضطرا؟ قبل تسلم سي مصطفى بن بولعيد القيادة في 13 مارس 1956 بنحو شهر من هذا التاريخ، كان عجول منسجما مع سي مصطفى الذي كان على اتصال معه لمناقشة تسليم القيادة. وأرسل عجول استدعاءات لإطارات الولاية لحضور الاجتماع، وهناك قيادات جاءت من أماكن بعيدة بالقرب من الحدود التونسية مثل نواورة عبد الله، والوردي قتال، وجبار عمر، وهذا يؤكد أن سي مصطفى وعجول كانا على اتفاق مسبق بأن يسترجع سي مصطفى بن بولعيد القيادة، فلو أراد سي مصطفى إرسال الاستدعاءات لما احتاج لعجول، لكنه احترم النظام والقانون وطلب من عجول إرسال الاستدعاءات لإطارات الولاية. بعد تسليم عجول قيادة الأوراس لبن بولعيد، تحدثت شهادات مجاهدين بأن سي مصطفى عاتب عجول على إعدام شيحاني ورجل شيوعي يدعى عمراني وآخرين، وهو ما لم يستسغه عجول، ما مدى دقة هذه الرواية؟ سي مصطفى بن بولعيد قائد روحي، ونفوذه مفروض على الجميع، لكن يوجد نوع من القبلية والجهوية في الأوراس مثل بقية المناطق وهي موجودة إلى يومنا هذا في قاداتنا ولا يمكننا نفيها. عندما تولى عجول القيادة، هناك من عارض ذلك، من بينهم عمر بن بولعيد الذي كان يريد أن تكون له قيادة الأوراس، وهذه الحساسية جعلت البعض لا ينسجم مع عجول وراحوا يضخمون أخطاءه، خاصة بعد تمرد عمر بن بولعيد، ما غذى هذه الحساسية أكثر، لكنها لم تصل إلى مستوى عدم الاعتراف بالقيادة أو بالأشخاص، أما التنظيم فبقي مهيكلا ومسيطرا على الوضع. أما قصة هذا الشيوعي المسمى عمراني ورفيقه الفرنسي، فكانا مسؤولين للحزب الشيوعي بالأوراس وانضما للثورة انضماما سياسيا بهدف احتوائها، فنبههما عجول وعباس بأن بيان أول نوفمبر نصّ على أن الأحزاب السياسية يمكنها الالتحاق بالثورة دون عقيدتها الإيديولوجية، لكن عمراني والفرنسي بقيا محافظين على إيديولوجيتهما الشيوعية، وفي بعض الأحيان كانا يرسمان شعارهما على بعض الصخور والمعالم، ويكتبان بأن الحزب الشيوعي مشارك في الثورة، ورفضا أن يكونا مجرد أشخاص موجودين في الثورة دون مسؤولية ونفوذ، ورغم هذا لم يعاقبهما عجول. ولما عاد سي مصطفى بن بولعيد قدموهما له، علما أن كاتب سي مصطفى بن بولعيد هو شقيق عمراني، فأرسل سي مصطفى بن بولعيد عمراني (كاتب سي مصطفى) إلى شقيقه كي يقنعه بالتخلي عن عقيدته الإيديولوجية والاندماج في الثورة، لكن عمراني ذكّر شقيقه بأنه هو من كان ينفق عليه عندما كان يدرس، ليأتي اليوم ليغير له إيديولوجيته، وقال له “روح تلعب”، فلما جاء بن بولعيد غادرا المركز، ولا أدري إن كان سي مصطفى بن بولعيد أعطى أمرا بقتلهما، أو قتلهما عجول ! الله أعلم، لكن المؤكد أن سي مصطفى التقى بهما بعد عودته وهو من حقق معهما، وهو من أعطى الأمر إما بإبعادهما أو قتلهما، لا يمكنني تأكيد ماذا كان مصيرهما بعد اختفائهما من المركز، لكن ما أعرفه أن صديق الطاهر زبيري الذي فر معه من سجن الكدية قتلوه، فقد كان أمامي يشتم عجول. تقصد إبراهيم طايبي؟ نعم، إبراهيم طايبي، حيث قال كلاما كثيرا من قبيل “أنتم خونة، وقتلتم سي مصطفى بن بولعيد، وبعتم الجزائر..” فقتلوه، أما سي الطاهر فلم يقتلوه بل احترموا تاريخه وشخصيته، وعلى العكس سلمه عباس لغرور مسؤولية قسم الهنشير مكان كربادو (ضابط في جيش التحرير سلم نفسه للفرنسيين)، لكن زبيري رفض هذه المسؤولية، رغم أنه في ذلك الوقت ممنوع أن تطلب المسؤولية وممنوع أن ترفضها، أما عجول فسلّم سي الطاهر زبيري أحسن كوموندوس، وسلّحه بأحسن تسليح غنمه المجاهدون من الجيش الفرنسي، لم يسلمه لا للمقربين منه ولا حتى لأبناء عمومته، بل أعطاه لسي الطاهر زبيري، ومع ذلك هرب، ولا أدري لماذا هرب سي الطاهر من الأوراس !؟ فلو أراد سي عجول قتل زبيري لقتله وهو أعزل من السلاح ومنفرد، لا أن يسلمه ثلاث فرق من المجاهدين مسلحين بأحسن الأسلحة. حسب رواية سي الطاهر زبيري، فإن عجول توعده بالقتل عندما ألقى القبض على إبراهيم طايبي وقال له “إن تكلمت مع هذا الخائن فستلحقه”، إضافة إلى خشيته من وشايات كان يروجها محيط عجول بأنه يريد سرقة مدفع رشاش وتسليم نفسه لفرنسا، لذلك فر هاربا إلى أهله ومنطقته في سوق أهراس؟ هذا وهم، لأن الشخص الذي يأتيك أعزل، وأنت لا تثق به، لا تعطيه سلاحا ولا رجالا قد يستقوي بهم عليك، بل تتركه أعزل أو تبعده أو تقتله، لكن عندما تسلحه وتجعله قائدا وتسلمه ثلاث فرق مسلحة وتجعله قريبا من محيطك، ثم يعتقد بأنك تريد قتله، فهذا ليس إلا وهما، وهذا ما حصل مع سي الطاهر وعجول، لذلك أنا أنفي هذا الوهم. والحقيقة أن سي الطاهر الزبيري أراد الالتحاق بسي مصطفى بن بولعيد في الأوراس (كان متواجدا في نواحي ولاية سوق أهراس) ولكن دون أن تكون له رخصة، والنظام في الأوراس مضبوط، فمن لا يملك رخصة رسمية لا يتنقل من منطقة لأخرى، وهذا طبيعي بحكم أنها منطقة غابية ومحرمة، ولولا ضبط مثل هذه القوانين لتسلل الجواسيس والمتمردون إلى المنطقة، خاصة بعد مراسلة سي عجول التي تنص على عدم الثقة في الفارين من سجن الكدية، ومن بينهم سي الطاهر زبيري، وما حدث بالضبط هو توقيف سي الطاهر في طريقه إلى الأوراس، مع وضعه في مركز عام خاص بالفرز، فكل غريب يوضع به، ثم تتم عملية الفرز، ومن ثم توزيعهم إلى مهام محددة، فهذا مسؤول وهذا يحول للكتيبة الفلانية، وسي الطاهر رفض إيداعه في مركز الفرز، وبقي يبحث عن سي مصطفى بن بولعيد أينما كان، فقلق عجول وقادة الأوراس، لأنه دخل مركز القيادة دون أمر، وهذا ما اعترف به ولو كان شخصا آخر لقتلوه. لماذا لم يقتله مادام عجول كان معروفا بصرامته في تطبيق القوانين؟ هذا دليل على أن عجول ليس عنيفا أو ضد هؤلاء الفارين مثلما يقال، بل على العكس، فسي الطاهر يعترف بأن عجول منحه قيادة “كوموندوس”، وعباس لغرور سلّمه قيادة قسم جنوبخنشلة، لكنه رفض لأنه لم يكن يثق إلا بسي مصطفى بن بولعيد في تلك المنطقة، فلو تنقل أحدهم من القسم إلى الناحية والمنطقة للوصول إليه عندما أصبح مسؤولا للولاية الأولى (الأوراس) لرفض، فلماذا يرفض التنظيم الموجود في ذلك الوقت (زمن عجول ولغرور)، فهذه ثورة وليست لعبا، وسي الطاهر لم يحترم نظام تلك المنطقة، ورغم هذا التجاوز لم يعاقب. عندما وصل زبيري إلى قيادة الأوراس لمقابلة بن بولعيد، قال له عجول “سي مصطفى بن بولعيد ذهب إلى مكان لن يعود منه”، وأضاف أن “النظام لن يعيد له الثقة إلا بعد تسعة أشهر”، هل كان عجول يقصد أن بن بولعيد استشهد، أم كان مازال حيا حينها؟ مصيبة عجول أنه تأثر بثلاثة أمور، الأمر الأول: ذكاؤه وطموحه وموقعه الذي تركه فيه سي مصطفى بن بولعيد والذي حسد عليه. والأمر الثاني: عندما أخفى مع عباس لغرور سر استشهاد سي مصطفى بن بولعيد وذلك للمحافظة على الثورة، وخوفا من أنهم لو أعلنوا استشهاده فالثورة قد تنفجر من الداخل، قد يتمرد البعض، فتنهار معنويات الثوار، لذلك أخفوا السر محافظة على معنويات المجاهدين وحتى لا يصل الخبر للفرنسيين الذين علموا به بعد مدة (لم يعلموا باستشهاد بن بولعيد إلا بعد ثلاثة أشهر حسب المؤرخ الفرنسي إيف كوريير). أما الأمر الثالث الذي أضر بعجول وعباس، هو سبب استشهاد سي مصطفى بن بولعيد فاتُهم عجول بقتله. هذه النقاط الثلاثة (وجوده في مركز القيادة، وكتمانه استشهاد سي مصطفى، ثم اتهامه بقتل بن بولعيد) جعلت موقف عجول يضعف في الأوراس، بل أهلكته آخر نقطة. يتبع تطالعون في الحلقة القادمة: المخابرات الفرنسية هي من دبر عملية اغتيال بن بولعيد وليس عجول عجول كان بعيدا عن مكان اغتيال بن بولعيد ولم يكن معه في كوخ واحد فيلم “مصطفى بن بولعيد” زوّر الحقيقة