غداة حل الحزب الشيوعي الجزائري في سبتمبر1955، التحق عضوان بارزان في الجنته المركزية بالثورة في منطقة الأوراس، هما: العيد العمراني نقيب المحامين بباتنة جورج رافيني مسؤول جمعية ”الإغاثة الشعبية” على مستوى كامل الجزائر، وهي جمعية تابعة للحزب. كان لكل منهما إلى جانب خبرتهما القانونية رصيد من التجربة الحربية والخبرة العسكرية، فكلاهما شارك في الحرب العالمية الثانية، وخرج منها حائزين على أوسمة منهما وسام ”صليب الحرب”، ولرافيني تجربة في الحرب الشعبية، بحكم مشاركته إلى جانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي. التحق هذا الثنائي المتميز بالثورة، في أجواء فرار قائد الأوراس مصطفى بن بولعيد من سجن الكدية مساء 10 نوفمبر 1955، وتجمع معظم الشهادات على أنه اجتمع بهما مرتين أو ثلاث وان كان له معهما حوار طويل معلّم من ناحيته ب: 1 بيان فاتح نوفمبر الذي يعتبر جبهة التحرير الوطني تجمعا حرا لأفراد، وليس ائتلافا لجمعيات أو أحزاب. 2 خطر إلصاق تهمة الشيوعية بالثورة في بدايتها، الأمر الذي يسهل مهمة الإستعمار الفرنسي في تأليب حلفائه الأقوياء عليها، بدعوى أنها تابعة لموسكو. وكان موقف العمراني رافيني معلما أيضا بالإيمان الراسخ بالشيوعية، والتمسك بحق الحزب الشيوعي بالمشاركة فيها، مع الحفاظ على هياكله واستقلاليته. كان سي مصطفى على سابق معرفة بالعمراني، علما أنه كان أحد المدافعين عنه أثناء فترة حبسه ومحاكمته بقسنطينة، فاقترح عليهما أمام تشبث الكل بموقفه تأمين التحاقهما بالخارج، أو بأية مدينة جزائرية يريدان.. ثم تركهما على هذا الإقتراح، وغادر وادي عطاف، ليستشهد في حادث جهاز اللاسلكي المفخخ الشهير مساء 22 مارس 1956. هل أمر بن بولعيد بتصفية الرفيقين؟ أم تم ذلك غداة استشهاده؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في هذه العجالة (*)، بعد 57 سنة من وقوع هذه الحادثة الأليمة. العيد العمراني ”محامي.. الفقراء” ولد العيد العمراني بباتنة في 3 نوفمبر 1914 وينتمي من ناحية والدته إلى عائلة سيسبان التي برز منهما المحامي المعروف الشريف سيسبان، كان محظوظا من ناحية الدراسة، قياسا بعامة أبناء جيله من الجزائريين.. فدراسته كانت منتظمة: بدأت بباتنة وانتهت بتولوز، مرورا بقسنطينة وجامعة الجزائر. تخرج من تولوز (فرنسا) حائزا على شهادة ليسانس في الحقوق.. وتزامن ذلك مع بداية الحرب العالمية الثانية فجند أول مرة، لكن هزيمة فرنسا السريعة عجلت بتسريحه سنة 1940.. وغداة نزول الحلفاء بالجزائر في 8 نوفمبر 1942، جند من جديد في إطار إعادة تكوين ”جيش إفريقيا” الذي أبلى البلاء الحسن في وقف الأطماع النازية في شمال إفريقيا، قبل أن يلعب دورا رئيسيا في هزيمة إيطاليا وتحرير فرنسا، ثم الزحف على ألمانيا نفسها. أنهى العمراني الحرب حائزا على وسام ”صليب الحرب”، فاستقر بمسقط رأسه، حيث فتح مكتبا لممارسة مهنة المحاماة، وما لبث أن برز مهنيا وسياسيا. مهنيا، اشتهر بعد فترة قصيرة بكناية ”محامي الفقراء” وكان من زبائنه في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي الكاتب الصحفي الشهير الطاهر بن عائشة. وقد كلل نجاحه المهني بالنتخابه نقبيا للمحامين بعاصمة الأوراس. سياسيا، باعتباره الممثل الأول بالأوراس وجنوبه للحزب الشيوعي الجزائزي، ومرشحه بناء على ذلك على مدى عشرية كاملة، من 1945 إلى 1955. ونتيجة الغليان الثوري الذي كانت تعيشه ناحية الأوراس، وجنوبها، انتقلت عدوى الكفاح المسلح لفك عقدة الإستعمار الفرنسي بالجزائر إلى هياكل الحزب الشيوعي، بحكم قاعدته الفلاحية هناك. في يوليو 1953 مثلا، تلقى بسبب هذه اللوثة الثورية تلقى ” موريس لبان” (بسكرة) توبيخا من قيادة الحزب بالجزائر، بتهمة ”النزعة الوطنية” أي من أنصار تجاوز المأزق الإستعماري بحد السلاح.. وكانت نفس التهمة تعني بعض مناضلي الحزب في الأوراس، وفي مقدمتهم العيد العمراني وا لمكي شباح، غير أن العمراني كان يومئذ عضوا في اللجنة المركزية (منذ 1949)، فلم يتلق نفس التوبيخ مثل رفقيه ”لبان” وفي ربيع 1955 تولى العمراني الدفاع عن مصطفى بن بولعيد، إثر أسره بتونس ونقله إلى قسنطينة، حيث حكم عليه بالإعدام.. وحسب محمد العيفة أحد رفاق بن بولعيد في محنة هذا الحكم القاسي أن العمراني كان يتردد على قائد الأوراس، و يطلعه على تطور النشاط الثوري في منطقته. وأكثر من ذلك أشعره بالخلافات التي بدأت تدب بين قادتها، وقد هاله ذلك، وجعله يخشى على مصير الثورة عامة. وفي أبريل من نفس السنة رشح المحامي اللامع مرة أخرى لإنتخابات المستشارين العامين (الولائيين)، وخاض حملة مدوية، تسببت في حبس رفيقه عضو اللجنة المركزية جورج رافيني مدة شهر. وتسارعت الأحداث في الصائفة الموالية، لتنتهي في الخريف بحل الحزب الشيوعي الجزائزي، ووقف صحيفية ”الجزائر الجمهورية”.. أمام هذه التطورات الناجمة عن اختيار القمع الإستعماري، اتخذ العمراني ورفيقه رافيني قرارا فاصلا: الإلتحاق بالثورة في الأوراس. وحسب الدكتور محمد العربي المداسي، أن الرفيقين التحقا في نوفمبر 1955 بجبال وستيلي جنوبباتنة.. حيث أقاما بعض الوقت بمقر قيادة الناحية، رفقة محمد العموري وعمر بن بولعيد، وقد وجدهما بهذا المركز مصطفى بن بولعيد، غداة فراره من سجن الكدية مساء 10 نوفمبر.. وبعد فترة كلف المجاهد علي بن شايبة بمرافقتهما إلى أحمر خدو ثم إلى سرا الحمام، حيث استقبلهما مسؤول الناحية عاجل عجول كضيوف شرف.. وقد طلب هذا الأخير بالمناسبة من المحامي ورفيقه مساعدته في أمانة الناحية، لاسيما كتابة المناشير. في بداية يناير 1956 التحق مصطفى بن بولعيد بناحية عجول، فوجد ثانية العمراني ورفيقه بحمام شابورة.. حيث أجرى معهما حوار مطولا.. وحسب بن شايبة أن العمراني أعلن بالمناسبة عن استعداده للتطوع بفتح جبهة جنوب المنطقة الأولى، في حالة موافقة القيادة به طبعا.. وكان يحاول باستمرار تثمين الدعم الذي يمكن أن يقدمه الحزب الشيوعي للثورة داخليا وخارجيا. وكان سي مصطفى في رده يحاول إقناعه بأمرين إثنين: بيان فاتح نوفمبر الذي يفتح أبواب الثورة أمام جميع الجزائريين بدون استثناء، شريطة الإلتحاق بصفة فردية، فيما يخص مناضلي الأحزاب السابقة. استبعاد تهمة الشيوعية عن الثورة (الوطنية)، تجنبا لطرح المسألة الجزائرية في إطار الصراع بين الشرق والغرب، مما يزيد في تعقيدها، ويسهل مهمة فرنسا في تجنيد حلفائها الأقوياء. وكان لسي مصطفى لقاء ثالث وأخير بالرفيقين العمراني ورافيني، غداة مبايعته للمرة الثانية بوادي عطاف في 13 مارس 1956، علما أن عجول ولغرور خاصة روادهما الشك في فراره، فطبقا عليه مبدأ التحفظ الوقائي طيلة 4 أشهر كاملة. واصل سي مصطفى بالمناسبة محاولة إقناعهما، بالإنخراط في جبهة التحرير الوطني بصفة فردية كما سبقت الإشارة.. وكان الحوار معهما بطريقة سياسية ودية، لكن الرفيقين تمسكا بموقفهما الرافض، والإصرار على المشاركة في الكفاح المسلح، بالتنسيق مع قيادة حزبهما وهياكله.. قام سي مصطفى بمحاولة أخيرة بواسطة كاتبه عبد الحميد العمراني، شقيق المحامي، فكان رد هذا الأخير.. أنا أخوك الأكبر، وأنا الذي أنفقت على دراستك، ومع ذلك لم أحاول قط إقناعكم بالإنخراط في الحزب الشيوعي، أو صدرك عن حزبك حركة الإنتصار، وها أنت اليوم تحاول صدي عن الشيوعية!، إعلم، أنني أحيي وأموت على الشيوعية! وسأعرضكم باسم الشيوعية، حتى بعد الإستقلال! بعد هذا اللقاء هناك روايتان عن نفس الشاهد، ألا وهو عاجل عجول الذي تولى عمليا قيادة المنطقة من الناحية الإدارية بعد مقتل شيهاني بالتحالف مع عباس لغرور الذي تولى الجانب العسكري. الرواية الأولى أدلى بها عجول إلى الدكتور محمد العربي المداسي، ومفادها أن سي مصطفى بعد أن علم من كاتبه عبد الحميد العمراني بفشل مسعاه لدى أخيه المحامي، أمر عجول بإعدامهما. وبعد تنفيذ الأمر بأيام، قال لعجول مبررا قراره إلى حد ما: ”إن العمراني شخصية قوية مؤثرة، ما يمكن أن يلحق بإسم حزبه أضرار بالثورة”.. الرواية الثانية لعجول وردت في شهادة شاملة، سجلها عنه بمحافظة جبهة التحرير في باتنة سنة 1985 عدد من المجاهدين، كان من بينهم محمود الواعي ومحمد الطاهر عزوي، ومختار فيلالي.. وخلاصتها أن سي مصطفى بعد أن أبلغه كاتبه بفشل محاولته مع أخيه الأكبر، خير هذا الأخير ورفيقه رافيني، بين الدخول إلى أية مدينة بالجزائر أو الإلتحاق بالخارج.. وتعهد بالمناسبة أن يتكفل بإلحاقهما بأي مكان يريدان. وحسب عجول في روايته الثانية أن سي مصطفى غادر وادي عطاف وتركهما هناك، مضيفا.. ”ولا أدري كيف انتهى مصيرهما”! المهم أن إعدام العمراني ورافيني تم في الحالتين في غضون النصف الثاني من مارس 1956.. هل كان ذلك بأمر من سي مصطفى؟ أم بمبادرة من عجول عقب استشهاد هذا الأخير مساء 22 من نفس الشهر؟ من الصعب الإجابة بدقة على مثل هذا التساؤل، للتضارب الواضح بين شهادتي عجول نفسه، وعدم وجود شهادة أخرى من طرف ثاني أو أكثر تؤكد أو تنفي هذه الرواية أو تلك. تم تنفيذ حكم الإعدام حسب شهادة المناضل المجاهد بيشة الجودي (تكوت باتنة) فجر ذات يوم بقصر أولاد عيسى .. وكانت البداية برافيني الذي كان ملتحيا حسب الشاهد.. ثم تلاه العمراني الذي سقط وهو يهتف ”تحيا الشيوعية! لن تموت الشيوعية أبدا!” جورج رافيني خبير ”الحرب الشعبية” جورج رافيني هو القيادي الشيوعي الثاني الذي قتل رفقة المحامي العيد العمراني بالأوراس على الأرجح في ربيع 1956، بعد استشهاد مصطفى بن بولعيد مساء 22 مارس. ويخلط الذين كتبوا عن المنطقة إبان الثورة بينه وبين موريس لبان المعروف ببسكرة، والذي قتل رفقة أنري مايو مطلع يونيو من نفس السنة في ضواحي الكريمية (عين الدفلى)، وأحيانا يكتفون بذكره تحت صفة ”الفرنسي رفيق العمراني”.. ترى من هو جورج رافيني؟ ولد جورج بقسنطينة سنة 1913 (على الأرجح)، وكان والده عاملا في مستودع السكك الحديدية بسيدي مبروك وقد درس بمسقط رأسه المراحل الثالثة الأولى، قبل أن يختم بكلية الحقوق بجامعة الجزائر. في بداية 1937 التحق بإسبانيا التي كانت يومئذ مسرحا لحرب أهلية طاحنة، بين أنصار الجمهورية وخصومها بقيادة فرانكو الجنرال والدكتاتور الشهير وهناك انظم إلى اللواء 14، من الألوية الدولية المساندة للجمهوريين وفي أكتوبر من نفس السنة التحق بهذا اللواء زميله السابق بثانوية قسنطينة موريس لبان من كبار المناضلين الشيوعيين جنوب الأوراس، وقد خاضا معا معركة ضارية على جبهة مدريد في مارس 1938، أصيب خلالها لبان بجروح، وهو الذي أسعفه.. وبعد هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية عاد إلى الجزائر صائفة 1940، حيث التقى بالعاصمة من جديد صديقه لبان.. وكان جورج قد دعي من قسنطينة للمشاركة في إعادة تنظيم الحزب الشيوعي الجزائري، لمواجهة حملة القمع والإضطهاد التي سلطتها حكومة فيشي، على كل من يحاول التصدي للإحتلال النازي ومحاربته وقد كلف مؤقتا بالإشراف على مطبعة الحزب الذي كان تصدر آنذاك صحيفة بعنوان ”الكفاح الإجتماعي”. اعتقل وهو يمارس هذا النشاط السري في يناير 1941، وبعد نحو سنة مثل أمام محكمة عسكرية حكمت عليه بالإعدام.. وكان قبل إصدار الحكم قد هاجم من قفص الإتهام نظام المارشال بيتان باعتباره ”قيد للشعب الفرنسي، وكابوسا جاثما على صدر الجمهورية”. حبس أولا بالحراش، ثم نقل إلى لامبيز (تازولت) بالأوراس. تم تعليق حكم الإعدام في البداية بفضل مساعي عناصر من عائلته، وآخرين من عائلات المحكوم عليهم مثله لدى الجنرال قورو من ضباط حكومة فيشي يومئذ، ثم جائ قرار العفو العام في 16 مارس 1943، فكان من المستفيد منه. التحق بعد الإفراج عنه بجيش إفريقيا الشمالي الذي شارك في الحملة على إيطاليا ثم على فرنسا، وكان له دور متميز بدليل حصوله على عدة أوسمة، منها وسام صليب الحرب. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها عاد إلى قسنطنية، كمسؤول شيوعي نشيط على مستوى المنطقة كلها. وقد ساهم يومئذ في تأسيس وتنظيم نقابة الفلاحين الصغار بشرق البلاد رفقة مناضلين آخرين، على غرار المكي شباح ومحمد قروف وغيرهم. بعد فترة التحق بالعاصمة من جديد، حيث كلف بمنظمة الإغاثة الشعبية على مستوى كامل البلاد،.. وما لبث أن عين سنة 1949 عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وغداة إعلان الثورة عاود اإتصال برفاقه بمنطقة الأوراس، وكان بعضهم على صل بجبهة وجيش التحرير هناك. وفي أبريل 1955 ساند رفقيه العيد العمراني في حملة انتخاب المستشارين العامين، حيث أدلى بتصريحات، جلبت له حكما بالسجن مدة شهر.. مع نفيه من عمالة الجزائر، كان ذلك في يونيو من نفس السنة، وشهدت صائفة هذه السنة تدهورا سريعا في إدارة الإحتلال بالحزب الشيوعي، أدى إلى قرار رحيله في سبتمبر وهكذا أصبح طريق الإلتحاق بالثورة ممهدا، وتم ذلك على الأرجح في نوفمبر 1955. وحسب شهود تلك الفترة، أن رافيني كان أثناء حوارهما الطويل مع بن بولعيد وإخوانه أكثر مرونة من العمراني، لكنه كان في وضعية تابع له، أبى أن يشق عصى الطاعة عليه.. وكان يحاول تبرير موقف قيادة حزبه المناوئ للثورة في البداية بحجة ”أن الرفاق بالجزائر لا يرون ما يحدث هنا”.. وقد قتل بناحية عجول في ربيع 1956 على الأرجح، قتل وهو يردد: ”تحيا الثورة! يحيا الحزب الشيوعي!” وحسب رفاقه أن الثورة خسرت بقتله ”خبيرا في الحرب الشعبية”. ترك رافيني أرملة تدعى ”ران”، كانت مناضلة شيوعية، وقد حبست بدورها في ربيع 1957 بعض الوقت، بتهمة توزيع مناشير سرية من قيادة حزبها المحضور(*). (*) اعتمدنا في إعداد المقال على كتابات جمعية أول نوفمبر بالأوراس، وكتاب الدكتور محمد العربي المداسي (مغربلو الرمال)، فضلا عن كتابات روني ڤاليسو وهري ألاغ وكسال وبيرلي...