إنّ الفتنة في اللغة مشتقة مِن فعل فَتَن، يُفْتِنُ، بمعنى مَحَّص يُمحِّص، لذا يقال في اللغة العربية فَتَنْتُ الذهب إذا محّصتُه وصفّيتُه من الدَّخن والشوائب، كذلكم الحال للفتن الّتي تعتري الفرد والمجتمع تُميّز الصالح من الطالح، والطيّب من الخبيث. وكما جاء في الحديث الّذي رواه مسلم في صحيحه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: ”إنّها ستكون فتن، ألا ثمّ ستكون فتنة، القاعِد فيها خيرٌ من الماشي فيها، والماضي خيرٌ من السّاعي إليها، ألاَ فإذا نزلَت أو وقعت فمَن له إبل فليلحق بإبله، ومَن كان له غنم فليلحق بغنمه”. فمرضى القلوب والنفوس هم الّذين يخوضون في الفتن ويريدون إشعالها والاصطياد في الماء العكر، كما جاء في الحديث الّذي رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد والحاكم قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: ”سيكون في أُمّتي اختلاف وفُرقة، قوم يحسنون القيل ويُسيئون الفعل، يقرأون القرآن لا يجاوز براقيهم، يَمْرُقُون مِنَ الدِّين كما يَمْرُقُ السَّهم مِن الرميّة”. لذا من معاني الفتن: -إسناد الأمر لغير أهله كما جاء في الحديث الّذي رواه البخاري في صحيحه أنّ رجلاً سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الساعة فقال: متَى الساعة يا رسول اللّه، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة قال: وكيف إضاعتها؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: إذا وُسِد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة. -تداعي وتكالب الأمم على أمّتنا كما جاء في الحديث الّذي رواه أبو داود وأحمد وأبو نعيم قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: ”يُوشَك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكَلَة على قصعتها”. -اختلال المقاييس كما روى أحمد وابن ماجه والحاكم قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: ”سيأتي على النّاس سنوات خدّاعات يُصدّق فيها الكاذب ويُكذّب فيه الصّادق ويؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين وينطق فيها الرويبِضة، قيل وما الرويبِضة؟ قال: الرجل التافه يتكلّم في أمر العامة”. -انتشار الفساد كما جاء في الحديث الّذي رواه البخاري في صحيحه: ”ليكُونَنّ من أمّتي أقوام يستحلّون الحرّ والحرير والخمر والمعازف”، وصدق اللّه القائل: ”واتّقوا فِتنةً لا تُصيبَنَّ الّذي ظلموا منكم خاصّة”، لذا كان المصطفى الحبيب الصادق المصدوق يتعوَّذ من الفتن، فمِمّا أُثِر من دعائه صلّى اللّه عليه وسلّم: ”اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن”، لذا على المسلم أن يكون مفتاحًا من مفاتيح الخير، مغلاقًا من مغاليق الشر، وأن يسعى بكلّ ما أُوتِيَ من قوّة لتجنيب الأمّة المحمّدية الفتن بملازمة جماعة المسلمين وعدم الشذوذ عنها، كما جاء في الحديث الّذي رواه ابن ماجه والترمذي وأحمد من طريق سيّدنا العرباض بن سارية رضي اللّه عنه قال: وعظنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول اللّه إنّ هذه لموعظة مودِّع فماذا تعهَد إلينا؟ قال: تَرَكْتُكُمْ على المحَجّة البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغُ عنها إلاّ هالِك ومَن يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنّواجذ، وعليكم بالطّاعة وإن تأَمَّر عليكم عبدٌ حبشي أسود، فإنّما المؤمن كالجمل الآنِف حيثما قُيِّد ينقاد”. وعلينا أن نُكثر من الدعاء ليُصلح اللّه أمرَ أُمّتنا، وصدق اللّه إذ قال: {وإذا سأَلَك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أُجيب دعوةَ الدّاعي إذا دعان}، والحذر الحذر من أمر اليهود والنّصارى السّاعين لإثارة الاقتتال بين المسلمين، ولنتذكّر قول الباري جلّ وعلا: {ولَن ترضَى عنك اليهود ولا النّصارى حتّى تَتّبِع مِلّتَهُم} وقوله تعالى: {كُلّما أوْقَدُوا نارًا للحرب أطفأها اللّه ويسعون في الأرض فسادًا واللّه لا يُحبّ المفسدين}.