أبدى الشيخ محمّد المأمون القاسمي الحسني أسفه لما يحدث في كثير من المساجد من ”هيمنة مجموعات تفرض إرادتها فيها، تتغذّى من إشاعة الفهوم الخاطئة للدّين، والتّأويلات الباطلة لمقاصد شريعته. وتنسب نفسها إلى تيار دخيل على المجتمع الجزائري”. واعتبر، في حوار ل«الخبر”، أنّ هذا التيار ”غريب عنه، وافد عليه”، مؤكّدًا أنّ ”منهم مَن يمثّل ظاهرة التّكفير؛ وبعضهم عرف بالغلوّ والتطرّف والجمود”، ”ما ألحق ضررًا كبيرًا بوحدة المجتمع وتماسكه”. الجزائر: حاوره عبد الحكيم ڤماز لماذا لا يُساهم المسجد في المحافظة على الانسجام في المجتمع (أحداث غرداية أنموذجًا)؟ وهل تحوّل المسجد عن دوره الرّيادي؟ ❊ هذا الموضوع في غاية الأهمية، والإجابة على السّؤال لا تتّسع لها كلمات معدودات. فالحديث هنا يتناول الخطاب المسجدي، وهذا الخطاب لابدّ له من مقوّمات النّجاح، لكي يؤثّر في محيطه الاجتماعي، ويسهم في المحافظة على تماسك المجتمع وانسجامه. ولعلّ من أهمّ عوامل النّجاح أن يصدر الخطاب عن علم صحيح، ورؤية معرفية شاملة، ويراعي فقه الأولويات، كما يُراعي فقه المقاصد والمآلات. ومن خصائص الخطاب النّاجح التّعامل مع الواقع الّذي يعيشه الناس؛ فهو يوجّههم إلى موقف الإسلام من مستجدّات الحياة، ومجريات الواقع المعيش. ومعيار نجاحه إنّما يظهر في الأثر الإيجابي الّذي يتركه في المخاطبين، حين ينتج عنه أثر عمليّ في حياة النّاس، بتغيير أفكارهم، وتقويم سلوكهم، وبالتّوفيق بينهم، وجمع كلمتهم. ونحن نكاد نفقد هذا الخطاب المعتدل المتوازن؛ ولا نجده إلاّ في فئة من أئمة المساجد، الّذين لهم زاد من العِلم والمعرفة؛ ويجمعون بين الفقه الصّحيح والفكر الرّاشد؛ مع التزام بالمرجعية الدّينية الوطنية، فضلًا عن قوّة الإرادة وقوّة الشّخصية. إنّ ما نراه في كثير من المساجد، مع الأسف، هو هيمنة مجموعات تفرض إرادتها فيها، تتغذّى من إشاعة الفهوم الخاطئة للدّين، والتّأويلات الباطلة لمقاصد شريعته. وتنسب نفسها إلى تيار دخيل على المجتمع الجزائري؛ وهو تيار غريب عنه، وافد عليه. ومنهم مَن يمثّل ظاهرة التّكفير؛ وبعضهم عرف بالغلوّ والتطرّف والجمود؛ ولم تجنِ الأمّة منهم سوى الفرقة والخلاف، وجفاف الأرواح، واختلاف القلوب، وإثارة الفتنة في المجتمع؛ بل داخل الأسرة الواحدة؛ ما ألحق ضررًا كبيرًا بوحدة المجتمع وتماسكه؛ وما أحداث غرداية عنّا ببعيد. وفي هذا السياق؛ فإنّ الخطاب المسجدي مطالب بنشر المزيد من الوعي بين المسلمين، لإبعادهم عن شرور التطرّف والعنف، وعن الغلوّ في الدّين، الّذي كان آفة قديمة في الأمم السّابقة؛ وكان سببًا في هلاكها؛ كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم: ”..فإنّما أهلك مَن كان قبلكم الغلوّ في الدّين”. وفي مواجهة تيار الغلوّ الهدّام، ومواجهة طغيان الحياة المادية؛ فإنّ الخطاب المسجدي مدعوّ إلى العناية بالتّربية الرّوحية، عناية خاصة؛ باعتبارها الوسيلة المُثلى للحياة الإسلامية الحقّة. فهي الّتي تغذّي مشاعر الأخوّة والمحبّة والرّحمة، وترسّخ قيم التّضامن والتكّافل في أفراد المجتمع. الخطاب المسجدي المنشود هو الّذي يسعَى لترقية الحياة الرّوحية، ولا يهمل متطلّبات الحياة المادية. فهو الّذي يجمع، في انسجام وتكامل، بين الجانب التّشريعي والجانب الرّوحي من الإسلام، لتمتزج القيم الرّوحية بالقيم المادية، وترتبط الحياة الرّوحية بالحياة الاجتماعية. وتلكم هي الحياة الإسلامية المتوازنة الّتي يرتضيها اللّه لعباده المؤمنين. ما هي أولويات الخطاب المسجدي في نظركم؟ ❊ لعلّ أهمّ أولويات هذا الخطاب، وأكثرها إلحاحًا، المحافظة على المرجعية الدّينية الجامعة الموحّدة، وتعزيز الوحدة الدّينية والوطنية؛ والسّعي لنشر قيم التّسامح والتّضامن، والدّعوة إلى نبذ الغلوّ والتعصّب والعنف، والجعل من الإصلاح بين النّاس ونبذ الفرقة والخلاف دعوة مستمرّة ورسالة يومية، لتكون الأخوّة بين المسلمين هي الرّابطة الوثقى، تجمعهم بعد تفرّق، وتؤلّف بينهم بعد خصام. وعلى الخطاب المسجديّ أن يتصدّى لذلك بأسلوب الإصلاح والتّغيير، لا بأسلوب التّعنيف والتّشهير. فمخاطبة النّاس بالحُسنى تجعلهم أكثر استجابة لما يدعون إليه. فعن عائشة رضي اللّه عنها، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ”إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلاّ زانه، ولا ينزع من شيء إلاّ شانه”. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ الخطاب المسجدي لا ينجح في تبليغ رسالته، على وجهها الصّحيح، إلاّ إذا التزم أدب الاختلاف، ومنهج الإسلام، في نظرته إلى الاختلاف؛ باعتباره اختلاف تعدّد وتنوّع وتكامل؛ وينبغي ألا يتحوّل الاختلاف في الرّأي أو المنهج أو المذهب إلى اختلاف تعصّب وتناحر وتخاصم. فالاختلاف سُنّة لا سبيل إلى إلغائها أو تجاوزها؛ بل ينبغي فهمها وحسن التّعامل معها. والإسلام، كما يقبل الاختلاف يمقت الغلوّ والتعصّب، ويمنع استعمال العنف لإلغاء الاختلاف، وإقصاء الرّأي الآخر. ولا يجوز لأحد أن يزعم العصمة لرأيه، أو يدّعي الكمال لمذهبه أو منهجه أو طريقته؛ فكلّ يؤخذ من كلامه ويردّ، إلاّ المعصوم صلّى اللّه عليه وسلّم؛ كما جاء عن الإمام مالك رحمه اللّه. وكلّ مجتهد قابل لأن يصيب أو يخطئ؛ وهو في الحالين مأجور. وأقصى ما يقول عن نفسه ما يروى عن الإمام الشّافعي رحمه اللّه: ”رأيي صواب يحتمل الخطأ. ورأي غيري خطأ يحتمل الصّواب”. وإذا كان لكلّ الحقّ في أن يرجّح رأيا من الآراء الخلافية، وأن ينتصر له ويدعو إليه، فإنّ عليه أن يحترم الرّأي الآخر، في الخلاف السّائغ، ولا يهاجم أصحابه، أو يسفّه عقولهم؛ بل عليه أن يحسن الاستماع إلى المخالف، ويفهم آراءه، ولا يتسرّع في اتّهامه أو الطّعن في عقيدته، فضلًا عن تكفيره، لمجرد المخالفة في الرّأي؛ وقد يكون هو المحقّ. واللّه عزّ وجلّ أمرنا بقبول الحقّ، ولو من الكافر، فما بالك من المسلم المخالف. علينا أن نُبيّن للنّاس أنّه لا يحقّ لأحد أن يزعم أنّ فرقته وحدها هي الناجيّة، وأنّ غيرها على باطل وضلال. ففي كلّ فرقة من المسلمين أتقياء بررة، وأشقياء فجرة. وفي كلّ فرقة سواد أعظم، بين هذا وذاك. والمنهج الصّحيح هو تجنّب التعصّب المفضي إلى إقصاء الآخرين. يقول العالم الربّاني الشّيخ محمّد بن أبي القاسم، مؤسّس الزّاوية القاسمية رحمه اللّه، (ت:1315ه-1897م) في رسالة عرفت برسالة الإباضية، كتبها سنة 1310ه- 1892م، للردّ على بعض الأفّاكين، ودحض أباطيلهم، محذّرًا من آثار التعصّب المقيت، وعواقب فتنة التّكفير: ”..وإنّي أكره التعصّب للمذاهب، وقول بعضهم فلان على الحقّ، وفلان على الباطل. وعندي أنّ المحقّ مَن اتّبع الكتاب والسّنَّة، وعمل بهما. فقد تقرّرت القواعد، وتأصّلت المذاهب، واتّبع كلّ فريق إمام مذهبه؛ ومرجع الجميع إلى اللّه، وحسابهم عليه..”. ثمّ يقول بشأن مَن يتجرّأون على تكفير طائفة من المسلمين: ”..فإنّ ذلك جرأة على اللّه عظيمة؛ وخروج عن جادة الصّواب، وخرق سياج يتعسّر رتقه، وفتح باب فتنة يتعذّر غلقه..”. كيف تنظرون إلى مسؤولية الأئمة والدّعاة، بشكل عام؟ ❊ إنّ مسؤولية الأئمة والدّعاة كبيرة، وأمانتهم في تبليغ الرّسالة جسيمة. فهم يحملون شرف الدّعوة، ويتولّون ميراث النّبوّة. عليهم أن يركّزوا على العلم في رسالتهم، ويسلكوا سبيل الحكمة في دعوتهم. عليهم أن يجمعوا قلوبهم، ويوحّدوا صفوفهم، ويحذروا أن يوقع الشّيطان بينهم؛ فيشتغل بعضهم ببعض، وأعداء الأمّة يتفرّجون من حولهم. عليهم أن يستشعروا عظمة الأمانة الملقاة على عاتقهم، ويحفظوا استقلاليتهم وكرامتهم، وينأوا بأنفسهم عن الصّراعات المصلحية والتّنافسات الظرفية، ويكونوا دائمًا دعاة تقريب وتأليف، لا أداة فرقة وتشتيت. وأن يجعلوا لمصلحة الأمّة ميزانًا يؤخذ به أو يردّ؛ وأن تكون لديهم فوق كلّ اعتبار يذكر أو يعدّ. إنّ على الدّعاة تجنّب إثارة الشّبهات، واتّقاء الفتنة بين المسلمين، وكلّ ما يُفضي إلى الفرقة الّتي ينهى عنها الإسلام؛ والعمل لإشاعة روح التّسامح، تأليفًا للقلوب، وجمعًا للكلمة، مع التّركيز على مواضع الاتّفاق للاجتماع حولها، والتّغاضي عن مواضع الاختلاف لتحاشي مساوئها. إنّ ذلك هو شأن العلماء الهادين المهديين، الّذين يؤلّفون بين النّاس ويقرّبون، ولا يبغّضون أو يباعدون؛ كما هي حال بعض المنتسبين إلى العِلم اليوم، الّذين يتاجرون بالدّين، ووضعوا أنفسهم تحت تصرّف أعداء الإسلام، فأصبحوا أدوات لإثارة الفتن بين الشّعوب؛ بل ودعاة إلى إزهاق أرواح المسلمين، وانتهاك حرماتهم، غلبت عليهم أهواؤهم وشهواتهم، فراحوا يفتون أهل الأهواء بما يشتهون، ويزيّنون للظّالمين سوء أعمالهم، غير مبالين بسخط اللّه؛ فكانوا ممّن باعوا دينهم بعرض من الدّنيا قليل، بل باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، وذلك هو الخسران المبين. نسأل اللّه تعالى السّلامة والعافية في ديننا ودنيانا.