يُشعلها بنزين السكن والشغل والمشاكل المهنية وسوء التسيير و"الحڤرة" عادت الاحتجاجات مجددا لتجتاح بعض مناطق الوطن مخلفة سقوط ضحايا. وكالعادة، لجأت السلطة إلى اتخاذ إجراءات تهدئة، لكن التدابير المتخذة بقدر ما كانت جزئية، فهي لم تعالج الأسباب الحقيقية التي تقف وراء العودة المتكررة للاحتجاجات. وبينما تصر المعارضة على إعطاء الطابع السياسي لغليان الشارع، تذهب السلطة عكس ذلك، وتتهم المعارضة بتسييس غير المسيّس. فأين يكمن التشخيص الأكثر عقلانية؟ وما هي الكيفية التي يجب أن تتعاطى بها السلطة مع حراك الشارع؟ وهل هذه الاحتجاجات عفوية أم مدبرة ومن يقف وراءها؟ وما هو محلّ الوزراء والولاة والأميار من إعراب تنامي هذه الاحتجاجات وانتقالها من ولاية إلى أخرى بما أحرق أو يكاد يحرق أصابع الحكومات المتعاقبة؟.. هذه الأسئلة وأخرى سيجيب عنها الملف السياسي لهذا الخميس.
بين المطالب المشروعة والتوظيف السياسي السلطة والشارع.. لعبة القط والفأر عندما اندلع ما عرف ب "احتجاجات الزيت والسكر" في جانفي 2011، وكادت أن تلحق البلاد بدول "الربيع العربي"، خرج الوزير الأول يومها، أحمد أويحيى، لينفي الطابع السياسي عن هذه الاحتجاجات، ويحصرها في المطالب الاجتماعية. غير أنه، وبعد أسابيع قليلة من تلك الاحتجاجات، تبين أن السلطة لا تصرح بما تفكر فيه، فالرئيس بوتفليقة خرج في خطابه الشهير في أفريل من ذات السنة ليطلق حزمة إصلاحات سياسية، منها ما تحقق، ولو تحت طائلة الانتقادات، ومنها من لا يزال ينتظر، وهو تعديل الدستور، ما يؤكد أن السلطة مقتنعة في قرارة نفسها، أن تلك الاحتجاجات وإن كان طابعها اجتماعيا، إلا أن بعدها يبقى سياسيا. وبقراءة متأنية لتعاطي السلطة مع حركية الشارع منذ 2011، نقف على حقيقة مؤداها أنها عادة ما تعد بإصلاحات تعتبرها حلولا للاحتقان السياسي، لكنها تبقى تلوّح بها من دون أن ترمي بها للمعارضة، وهو ما ساهم في تبلوُر "تهمة جاهزة" لدى الخصوم يرمون بها السلطة، وهي ربح المزيد من الوقت. وتتضح هذه القراءة أكثر في قضية تعديل الدستور، التي لا تزال مؤجلة منذ أفريل 2011 وإلى يومنا هذا، فعلى الرغم من الأشواط التي قطعتها هذه الورشة على مدار ما يقارب الأربع سنوات، إلا أنها لا تزال في مربع البداية. فأولى المشاورات التي أجريت بشأن تعديل الدستور تعود إلى جوان 2011، عندما كُلّف رئيس مجلس الأمة، عبد القادر بن صالح برئاسة هيئة المشاورات، رفقة مستشار الرئيس محمد علي بوغازي والجنرال المتقاعد، محمد تواتي، وكانت على قدر كبير من الجدية من طرفي المعادلة، السلطة والمعارضة، أو هكذا بدا للجميع.. غير أن هذا الملف غرق في سبات عميق، لم يستفق منه إلا على أخبار استحداث هيئة جديدة برئاسة مدير الديوان برئاسة الجمهورية، أحمد أويحيى، ليقوم بالدور ذاته الذي قام به خلفه على رأس الأمانة العامة للتجمع الوطني الديمقراطي، عبد القادر بن صالح. واللافت في الأمر هو أن عودة الحديث عن هذا الملف، عادة ما تتزامن وبروز بوادر حراك في الشارع، ولعل ما يصب في صلب هذه القراءة، هو غياب الحديث عن هذه الورشة الإصلاحية لشهور، قبل أن تعود هذه المرة على لسان القاضي الأول، والذي قرأ فيه المتابعون محاولة لامتصاص الحراك الذي تفجر مع دعوة "تنسيقية الانتقال الديمقراطي" إلى انتخابات رئاسية مسبقة. ولا يبدو أن خرجة الرئيس ستكون الأخيرة في مسار التوظيف السياسي لمشروع تعديل الدستور، طالما أنه لم يكشف عن أجندة محددة ومضبوطة لحسم هذا الملف، ما يعني أن المشروع سيعود مرة أخرى إلى التغييب، على أمل أن يعاد توظيفه مرة أخرى، عند أي مستجد، وسيبقى الأمر كذلك لأن السلطة لا تملك الكثير من الأوراق لتناور بها، وربما تكون ورقة تعديل الدستور هي آخر ورقة بحوزتها.
محمد بن حمو ل "الشروق": "الاحتجاجات حركتها مصالح ضيقة لسياسيين للإطاحة بالرئيس" يعتقد رئيس حزب الكرامة، محمد بن حمو، أن الاحتجاجات المتكررة، وخصوصا بالجنوب، سياسية بالدرجة الأولى، وقدر بأن أيادي خفية تحركها مصالح ضيقة وسياسيون هم من يقف وراء تأجيجها، بغرض الإطاحة برئيس الجمهورية عبر بوابة الجنوب، ودعا الحكومة إلى الكف عن الحلول الترقيعية واستخلاص الدروس. برأيكم، ما هي الأسباب التي تقف وراء تفجر الاحتجاجات من حين إلى آخر؟ نحن في حزبنا على اطلاع تام بما يجري في المنطقة عن طريق النائب محمد الداوي وعدد من المنتخبين المحليين. وما يحدث الآن سبق وأن حذرنا السلطات المركزية بشأنه، وحذرنا بلعيز شخصيا. إن السلطات نسيت أهل الجنوب تماما وظلت تفكر بمنطق أن أهل الجنوب قنوعون بما لديهم ولن يحتجوا يوما، بل وصار المسؤول والوالي المعاقب يحول إلى ولاية صحراوية. ألا تعتقدون أن عودة الاحتجاجات في كل مرة مرده أن السلطة تتعامل معها بمنطق المهدئات والحلول الترقيعية؟ نعم أنا مع الطرح القائل بأن السلطة تعالج الاحتجاجات بالمهدئات وبحلول ترقيعية، والتنمية تفطنت إليها الدولة متأخرة نوعا ما، ووصولها إلى الساكنة يتطلب القليل من الوقت والصبر، ومشكل الأراضي مثلا يجب أن يحل محليا وليس مركزيا. وأستطيع القول إن الدولة بدأت تتخلى عن الحلول الترقيعية. فولاية ورڤلة مثلا أطلقت فيها مشاريع استثمارية- حوالي 500 مشروع- في السياحة والبناء ومواد البناء ومحطات البنزين، بعد أن كان كل شيء مجمدا في عهد الوالي السابق. وأتوقف هنا لأقول للوزير بلعيز إن توقيف رئيس الدائرة بتڤرت ليس حلا. وما هي قراءتكم لهذه الاحتجاجات؟ هل هي اجتماعية أم سياسية؟ أنا أراها سياسية أكثر لأن الشباب في ورڤلة، لا يشتغل بل وترك الفرصة للأجانب من الأفارقة ليشتغلوا في البناء وغيرها ب 1500 دينار لليوم، وهو يبحث فقط عن منصب في سوناطراك. يجب على الشباب أن يعملوا ويدركوا أن جلب القوت والكرامة ليس محصورا في سوناطراك وحدها، فصحيح أن الحارس والسائق لا يجب أن يجلب من الشمال لكن الكرامة لا تعني سوناطراك فقط. هل يمكن القول اليوم إن السلطة لم تستخلص الدروس من التجارب السابقة نظرا إلى تكرر هذه الاحتجاجات؟ أوجه نداء إلى رئيس الجمهورية وكل مسؤول يجب أن يتحمل مسؤوليته، لأن الرئيس أعطى الأوامر وعلى سلال تفعيل قراراته التي وعد بها ولا بد أن يكون صارما، لأنه إذا لم تفعّل القرارات ولم تكن هناك صرامة فالأمور ستتجه إلى المجهول، خصوصا ونحن أمام قتلى، وبخصوص رد فعل الشرطة فأعتقد أن تصرفها كان بهدف الحفاظ على سيادة وهيبة الدولة من خلال التصدي لمحاولة حرق المقر الأمني.
عبد الله جاب الله ل"الشروق": "المواطن لا تشترى ذمته بالمال والسكن.. حلّوا المشاكل من جذورها" يعتقد رئيس جبهة العدالة والتنمية الشيخ عبد الله جاب الله، أن سياسة الدولة في حل المشاكل الاجتماعية والاحتجاجات التي تندلع في كل مرة، خاطئة، ويرى أن السلطة تعامل المواطن على أساس أنه "حيوان" يحتاج للأكل والنوم ولا يتطلب حل مشاكله سوى شراء ذمته بالسكن أو بالمساعدة المالية، مقترحا على السلطة الأخذ بعين الاعتبار المقترحات التي قدمتها المعارضة للخروج من الأزمة، واعتماد سياسة تربوية يرتقي من خلالها خلق المواطن وثقافته وينشأ جيل له من الثقافة والخلق والاستقامة ما يؤهله لبناء وطنه. ما هي قراءتكم لأعمال الشغب التي تندلع في كل مرة ولنأخذ على سبيل المثال أحداث العنف الأخيرة بتڤرت، ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟ الحكومة لا تريد أن تتحمل مسؤوليتها وتلقي بها على غيرها، والحقيقة أن المسؤول الأول على ما آلت إليه الأمور، هي السلطة ونظام الحكم، فلو قاموا بمسؤوليتهم في التربية وفي المنظومة التربوية وبالجامعات ووسائل الإعلام، لكان الشباب أكثر وعيا ونضجا وثقافة، ولكانت أخلاقه أكثر استقامة، ولو قامت السلطة بواجباتها وتكفلت بحقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، ولو قامت ببسط الحريات وأوجدت للشباب فضاءات للتعبير عن آرائه لوجدوا في هذه الفضاءات ما يعلمهم الأفضل ولما آل الأمر إلى ما آل إليه، ولو أن السلطة اجتهدت في بسط العدالة والتعاطي مع حقوق الناس، وحاربت كل أنواع الظلم الاقتصادي، والاجتماعي والسياسي والقضائي، لما وجدنا من يطالب بحقوقه بالقوة والعنف، إن المسؤول الأول عن هذه الأعمال هي السلطة. كيف ترون تعاطي السلطة مع هذه الاحتجاجات، واعتمادها سياسة التهدئة ومنح المحتجين المطلوب تحت الضغط؟ السياسة المتبعة ليست حلا، فهي يقصد السلطة لم تعمل على حل المشاكل من جذورها، وإنما عملت على شراء ذمم الناس عن طريق موضوع السكن، والأجور والمساعدات والمنح المالية.. هؤلاء ليسوا حيوانات حتى تساق إلى المرعى لتشبع بطنها ثم تنام بعد ذلك، لا بد على النظام الالتفات إلى هذه المطالب وإنشاء جيل له من الثقافة والخلق والاستقامة ما يؤهله ليبني وطنه على أسس متينة وحقه. هل تعنون أن سياسة الدولة المتبعة حاليا ستنشئ جيلا متواكلا ينتظر فقط ما يقدم له؟ إذا استمر النظام على ما هو عليه ورفض ما قدمته المعارضة كمقترحات للخروج من الأزمة الراهنة، فإن الوضع سيكون أسوأ مما هو عليه الآن.
أفراد الشرطة يلتحقون بالمحتجين والغضب لا يفرق بين الولايات 5 آلاف احتجاج سنويا.. والمسؤولون يتفرّجون ولا يتّعظون لم يبالغ تقرير سابق للمديرية العامة للأمن الوطني عندما كشف عن تسجيل أكثر من 4536 حركة احتجاجية خلال سنة واحدة، وبعيدا عن الأرقام الرسمية، فإن الواقع يؤكد وقوع احتجاجات واضطرابات وقطع للطرقات بشكل يومي عبر مختلف الولايات، وإن تعددت أساليب وطرق الاحتجاج، فإن المطالب والانشغالات واحدة. يبين التقرير الأخير للمديرية العامة للأمن الوطني، أنه من بين 4536 احتجاج، 3029 عرف أحداث عنف، بينما تركزت حوالي 1850 حركة احتجاجية في ولايات شرق البلاد، وأشار التقرير إلى أن ولاية بجاية احتلت صدارة ترتيب الولايات التي شهدت حركات احتجاجية بعد تسجيلها لنسبة 10.5 بالمئة من النسبة الإجمالية للحركات الاحتجاجية، تليها ولاية عنابة ب9 بالمئة وولاية ميلة ب8 بالمئة، ويعود السبب الرئيسي لاندلاع هذه الاحتجاجات، إلى أزمة السكن والبطالة، وانعدام مياه الشرب وتدهور الطرقات وغياب التنمية وندرة غاز البوتان. ومن أهم الاحتجاجات التي شهدتها البلاد خلال 2014 ما وقع بولاية سطيف، في جويلية الماضي، حيث خرج مئات المواطنين في انتفاضات شعبيَّة إلى الشوارع، وتسلُّل عدد من المحتجِّين إلى المستشفى الذي حوّل إليه شخص يبلغ من العمر27عاما، أصيب بطلقة ناريَّة من مسدس شرطيّ، حيث تم رشق العمال والأطباء بالحجارة، وقد طوّقت عناصر الشرطة مبنى المستشفى تحسبًا لأيّ انفلات أمني أو تصعيد في الوضع، ولامتصاص غضب المتجمهرين. ولعل أبرز احتجاج فاجأ الجميع ولم يكن في الحسبان، ما وقع في أكتوبر الماضي، حيث نظّم أعوان حفظ الأمن بغرداية مسيرة أمام مقر الولاية، وقد رفض المحتجون التحدث مع مسؤوليهم وطالبوا في المقابل بحضور وزير الداخلية، وهتف المحتجون خلال اعتصامهم "نريد إطلاع وزير الداخلية بالوضعية الكارثية التي نعيشها في هذه المنطقة التي تتميز بأعمال الشغب"، وأعقبها اعتصام أمام مقر الأمن الولائي ل"لفت انتباه" الجهات الوصية بخصوص ظروف عملهم، وانتقلت عدوى "انتفاضة رجال الأمن" إلى وحدات الأمن الجمهورية بالعاصمة، أين نظّموا مسيرات ووقفات احتجاجية أمام مبنى رئاسة الجمهورية، لرفع 19 مطلبا استجيب لأغلبها. كما عرفت الجامعات والإقامات الجامعية سلسلة من الإضرابات، استغرقت أكثر من شهر نظرا لتأخر البرنامج الدراسي، أو للتنديد بظروف الدراسة أو تدهور الخدمات بالإقامات الجامعية، وتواصل مختلف المنظمات الطلابية إضرابها في عدة جامعات على غرار جامعات ميلة والشلف وبومرداس ووهران والجلفة والعاصمة، وتمثلت أهم المطالب في فتح أكبر عدد من المناصب لطلبة الماستر، وتحسين ظروف التمدرس والإقامة. وتشهد يوميا عشرات البلديات والمدن من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب احتجاجات وقطعا للطرقات، تنطفئ مؤقتا لتعود مجددا، بعد زوال مفعول الوعود الكاذبة للمسؤولين، ما يستدعي معالجة حقيقية لمشاكل المواطنين والتكفل الفعلي بانشغالاتهم واستباق غضبهم بتلبية مطالبهم قبل اندلاع شرارة العنف.