تساؤلات كثيرة تفرض نفسها علينا ونحن نتابع يوميا تفاعلات الحروب الأهلية والصراعات الدموية المحتدمة اليوم، بين أعراق وطوائف وأديان في العالم العربي، سواء كانت تلك المتابعة تأملا في صيرورتها الكلية، أو في بعض تفاصيلها، وكلما انتهينا إلى حالة من تعقيد تفاعلات تلك الصراعات وصعب علينا وضع تصورات حول المآلات، نعود إلى الخبرة التاريخية نستنطقها، وإلى فلسفة التاريخ نبحث في إشكالياتها وجدلياتها، علّها تساعدنا على تحسين قراءتنا لما يجري، من خلال قياس ما ينطبع على خريطتنا الإدراكية بسنن وقوانين التاريخ، التي عادة ما تخضع لها الظواهر الإنسانية في ديناميكيتها وتطورها، فربما بذلك يمكننا استطلاع ملامح المستقبل القريب. هل ما يجري في العالم العربي، يمثل إرهاصات لعهد جديد من الإصلاح الجذري كما حصل في أوروبا القرون الوسطى التي واكبت عمليات الإصلاح بها حروب طائفية ودينية طاحنة على رأسها حرب الثلاثين (1618-1648). إن توماس فريدمان الذي ما فتئ يدعم في مقالاته المتسلسلة في ”نيويورك تايمز” ما سمي ب”الربيع العربي”، ويروّج له بحماس شديد، بل أقام في القاهرة وصنعاء فترة طويلة، ليعيش في العمق تلك التفاعلات التي أطلق خلالها صاحب ”اللكزس وغصن الزيتون” العنان لخياله الخصب، وكأني به يتمركز حول ذاته، معتقدا بأنه يلعب دورا في تسريع نضج ثمار ذلك الربيع، قد عاد بعد أشهر قليلة ناكسا رايته ورأسه، وكأنه يناقض مقولته وعنوان كتابه الآخر”الأرض مسطحة” أو ”الأرض بساط”، معترفا بمسلمة التعقيد، عندما خذلته ما آلت إليه تلك التفاعلات، حيث سارع إلى التأكيد على أنه تسرّع عندما قام بإجراء مقارنة سهلة بين ما جرى في العالم العربي وسقوط جدار برلين، معتبرا أن المقارنة الصحيحة كان ينبغي أن تكون مع حدث أوروبي مختلف، هو حرب الثلاثين عاما، التي قسمت أوروبا إلى دويلات طائفية بروتستانتية وكاثوليكية، تسعى فيها الأطراف المتصارعة لإضفاء وخلع طابع القداسة الدينية على نفسها، ويتهم كل مذهب أتباع المذهب الآخر بأنهم كفار وهراطقة خارجون عن المسيحية الحقة، وأنهم هم الأطهار وأتباع المذهب الآخر من الأنجاس. ويتقاطع الفيلسوف محمد أركون الذي غيّبته المنية عشية الانتفاضات العربية مع توماس فريدمان، ولكن وفقا لقراءات معرفية عميقة للواقع العربي، ولتاريخ وتاريخانية الظواهر التي يعيشها، مؤكدا في نهاية تلك القراءة على حتمية مرور المسلمين بذات المراحل التي مرّت بها المسيحية، دون أن يقضي بمثالية الواقع الغربي الراهن، الأمر الذي تسبب له في خلافات كثيرة مع زملائه في جامعة السوربون. فهل التاريخ فعلا يتقدم إلى الأمام كما يقول هيجل، وهل يصفي التاريخ حساباته مع نفسه، وهل كما يعتقد هيجل وراء كل ما يفعله البشر يختبئ عقل كوني أو روح مطلقة، تقودهم إلى مزيد من الحرية والعقلانية والأخلاقية؟ وهل ما يحدث في العالم العربي يمكن التعبير عنه وفقا لفلسفة هيجل ب ”مكر العقل”، حيث يتحايل العقل ليدفع الجهالات إلى أن ترى نفسها في المرآة؟ وبمعنى آخر، هل يمكن أن تدفع بشاعة المجازر الدموية والحروب الطاحنة، إلى انبثاق حركة أنوار تحررية عربية، تُسائل وتحاكم بجرأة تصنعها فظاعة الأحداث، التراث المعبّر عنه في الفقه الوضعي، وفي الفتاوى الوضعية، كي لا نقول الشرعية وتواجه بروح نقدية كل تأويل أو تفسير يدخل في نطاق الاجتهاد البشري، بحثا عن كل ما يمكن أن يكون قد ارتكب باسم الدين من جرائم؟ لنضع حدا لتلك التأويلات، ومن ثم يسعى العلماء التنويريون الجدد لبناء نموذج تفسيري أو نظام معرفي يقوم على مسلمات جديدة، يستند إليها كل اجتهاد من شأنه أن يفكك العصبيات والانغلاقات الطائفية المقيتة. لقد حان الوقت ليُساءل الموقعون باسم رب العالمين، بل لقد حان الأوان للتساؤل عن مدى خطورة التعبير عن الفتوى بالتوقيع عن رب العالمين، وفي الأخير يبدو أننا في أشدّ الحاجة إلى ربيع فكري وعلمي ومعرفي، ومن دونه يمكن القول أن الأرض لا تزال خصبة لإنتاج قواعد ودواعش جديدة بمسميات شتى.