في كل النقاشات الدائرة في المقاهي، في الساحات العمومية، في صالونات الشاي الفاخرة بالعاصمة والحواضر الكبرى الأخرى، في الصحافة المكتوبة بمختلف توجهاتها، في شاشات التلفزيون وأستديوهات الإذاعة، عبر شبكات التواصل الاجتماعي بالأخص وداخل العائلات، صار الحديث يدور حول هذا الموضوع الذي شدّ انتباه الجميع في الجزائر. وبطبيعة الحال لم تتأخر وسائل الإعلام الأجنبية، لاسيما الفرنسية منها، لحظة واحدة لاختطاف الخبر الساخن بسرعة وتنظيم الموائد المستديرة الواحدة تلو الأخرى لتحليله من كل جوانبه بكونه حدثا غير منتظر، بإشراك كل من هب ودب من المختصين المزعومين والمرتزقة السياسيين مع تفضيل أولئك الذين يتربصون الدوائر بالجزائر، وقال فيهم الرئيس الراحل هواري بومدين “إذا أطلق ذئب ضراطا في أعالي جبل جرجرة أو الونشريس، فإن رائحته سرعان ما تنتشر بباريس”. إنه بالفعل حدث مفاجئ غير مألوف في المشهد السياسي والاجتماعي الوطني الملتهب في السنوات الأخيرة أن نشاهد رجال أمن بالزي الرسمي يتظاهرون بالخطوة السريعة المنتظمة في الشارع الذي يحمل كثيرا من الدلالات، للتعبير عن استيائهم كما يفعل يوميا المواطنون الآخرون، بعد أن تعوّد الجمهور على رؤيتهم في الجانب الآخر للحواجز الفاصلة يبنهم وبين المتظاهرين، يجهدون أنفسهم في ردع مواطنيهم وإخوتهم وجيرانهم الذين يتقاسمون معهم ويلات الحياة اليومية نفسها ومحنها. إنه لمن الطبيعي ألا ينظر المرء إلى هذه الحركة إلا لكونها غريبة وغير عادية، بينما في المعسكر الآخر، معسكر المواطنين العاديين، كثرت المظاهرات وتعددت الاحتجاجات لتشمل المطالبة بحقوق شرعية مهضومة أو بحرية التعبير أو العدالة الاجتماعية أو الإنصاف في توزيع الثروات الوطنية. وانشرت مثل هذه المظاهر في كل ربوع الوطن، في الحواضر الكبرى وفي المدن والقرى الصغيرة، إذ لا يمر يوم واحد إلا وتطلعنا وسائل الإعلام على حدوث مسيرات أو تجمعات واحتجاجية سلمية أحيانا وغالبا ما تكون عنيفة تقطع الطرق، تحرق المنشآت، تتحدى القانون وتهدد الأمن العام. وأمام هذه الأوضاع، فإن السلطات العمومية، عوض العمل بكل جدية ومنهجية على إيجاد الحلول الجذرية للمشاكل الجوهرية والبحث عن المسببات الحقيقية التي تدفع المواطن للخروج إلى الشارع، وذلك من خلال التركيز على سلاح الوقاية بفتح باب النقاش الجاد والحوار البناء والإقناع والتحسيس، نراها تفضّل سياسة الهروب إلى الأمام بالاعتماد أساسا على القوة العمومية لتكليفها بردّ النظام إلى نصابه بعد اضطرابه. والقمع كما هو معلوم، مهما كان ضروريا أو حتميا في بعض الأوضاع الاستثنائية جدا، كثيرا ما لا يأتي بالحلول المناسبة بل يزيد الطين بلة، ويعقد الأمور وغالبا ما يترك أثارا جسيمة من الصعب محوها. وفي مواجهة الحشود المناوئة، يجد ممثلو القانون أنفسهم وحدهم وجها لوجه مع المتظاهرين في غياب أي سلطة سياسية أو إدارية مؤهلة للحوار أو التفاوض سعيا لإيجاد الحلول المطلوبة للمشاكل التي يعاني منها المواطنون. ولما تجد السلطات نفسها محصورة، وليس لديها أي هامش للمناورة، تضطر إلى التقهقر والمواربة قبل أن تلبي مجمل أو الجزء الأكبر من المطالب المقدمة من قِبل المحتجين أو الغاضبين. إن رجال الأمن بمختلف فئاتهم، وعيا منهم بالمسؤوليات الثقيلة الملقاة على عاتقهم، والمتمثلة في العمل على ضمان الأمن والاستقرار للوطن، حماية الأشخاص والممتلكات، صيانة الحريات الفردية والجماعية قدر المستطاع، تأمين المنشآت العمومية الحساسة، قد عملوا باستمرار من أجل أداء مهامهم طبقا للقانون مع احترام حقوق الإنسان والوفاء للدولة الجمهورية والحرص على تقديس العلاقات مع المواطن، باعتباره حليفهم الأساسي الذي لا يمكن الاستغناء عن تفاهمه وتعاونه لنجاح الرسالة الأمنية، وهم أيضا على يقين بأن عملية البناء والتشييد لن تتحقق كلية إلا في جو يسوده الأمن والطمأنينة والاستقرار في كل ربوع الوطن. على حساب حياتهم وصحتهم الجسدية والعقلية، لقد واجه هؤلاء الرجال الحشود الهائجة والأفراد العدوانية والمرتزقة الأجراء الذين يعملون لحساب العصابات التخريبية التي تتحرك وراء الستار، وهم مزودون بتعليمات صارمة تمنعهم من استعمال السلاح مهما كانت الظروف، وتأمرهم ببذل كل الجهود لتفادي سقوط ضحايا من بين المواطنين. فإذا تمعنا قليلا في التركيبة الإنسانية للشرطة الجزائرية في الماضي والحاضر، وحاولنا تسليط بعض الضوء على الظروف النفسية التي تؤدي فيها مهامها، سنكتشف دون عناء كبير بأن هناك ثلاثة أجيال رئيسية ساهمت في بناء هذه المؤسسة العتيدة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا. فالجيل الأول الذي كان له الشرف والحظ في وضع اللبنات الأولى لهذا البناء سنة 1962، معظم أفراده من أبناء جيش أو جبهة التحرير، تدربوا في أحضان الثورة المسلحة المجيدة وواصلوا العمل في صفوف الأمن الوطني بالقناعة نفسها وروح التضحية نفسها عازمين على ضمان الأمن والاستقرار لوطنهم كي يتقدم بسرعة في عملية البناء والتشييد. لقد قبل هذا الجيل عن قناعة وإيمان العمل ليل نهار، بوسائل قليلة جدا بل تكاد تكون منعدمة أصلا، بعيدا عن عائلاتهم، الغربي أصبح في الشرق، الشرقي في الغرب، الشمالي في الجنوب والجنوبي في الشمال، من دون المطالبة بأي حق ولا امتياز، مدركين بأن الواجب هو الذي ينشئ الحق وليس العكس. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن عددا كبيرا ممن ينتسب إلى هذا المعدن الثمين المستخرج من أحشاء الثورة التحريرية ضحوا بحياتهم دفاعا عن القانون والشرعية، بعد أن ساهموا في تحرير الوطن الغالي من نير الاستعمار البغيض. والجيل الثاني التحق بصفوف الأمن في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، للتلاحم مع الرعيل الأول في امتزاج منسجم بين الوطنيين الثوار وأحرار الجزائر المتخرجين من الثانويات والجامعات الوطنية والمتحمسين لأخذ المشعل ومواصلة النضال بالعزيمة نفسها والإصرار لبناء الوطن المفدى. لقد عمل هذان الجيلان جنبا إلى جنب منصهرين في بوتقة واحدة، شعارهما الوحيد “الصدق والوفاء واليقظة”، رفعوه وآمنوا به طيلة عشرية الثمانينيات وأثناء الجزء الأكبر من عشرية التسعينيات المسماة بالعشرية السوداء، أي ما يقارب 20 سنة كاملة. تلك الحقبة من الزمن التي عرفت فيها الجزائر العديد من الاضطرابات الأمنية الخطيرة، بدءا من الغليان الجامعي في النصف الثاني من السبعينيات مرورا بالأعمال الإرهابية الأولى في سنة 1981 (الأغواط: 28/09/1981) وفي 1985 (الهجوم على مدرسة الشرطة بالصومعة: 27/08/1985) ثم أحداث 05 أكتوبر 1988 التاريخية، قبل الدخول في النفق المظلم ومواجهة جحافل الإرهاب الوحشي المعمم في بداية 1991. وفي هذا الباب ينبغي ألا ننسى بأن أفراد هذين الجيلين هم الذين استهدفتهم الرصاصات القاتلة الأولى للإرهاب الهمجي، وقد تركوا في ميدان الشرف ما لا يقل عن ستة آلاف شهيد دفاعا عن الجزائر الجمهورية. ولا تزال الآثار الجسدية والصدمات النفسية لهذا الفصل المؤلم من تاريخ الجزائر المعاصر، ترتسم في أذهان الأحياء منهم، وفي ذاكرة أسرهم وشجاعة هؤلاء الرجال، ودرجة صبرهم وقوة تحملهم الجديرة بأن تنقش بحروف من ذهب في مدونات تاريخ الجزائر المعاصر وتحفظ إلى الأبد في الذاكرة الجماعية الوطنية. أما الجيل الثالث الذي يتكوّن منه معظم أفراد الشرطة الجزائرية حاليا، فأغلبه من أبناء الاستقلال الذين انخرطوا بصفوف الأمن في غضون الألفية الثالثة. وهذا الجيل، رغم أنه يعدّ الوريث الشرعي للجيلين السابقين وتكون وفق القواعد والمناهج نفسها التي ترتكز أساسا على الانضباط الصارم والطاعة المطلقة للأوامر في أداء المهام وتطبيق القانون، غير أن عناصره لم “يعجنوا” في القالب العائلي والاجتماعي نفسه الذي صقل المنتسبين إلى الجيل الأول والثاني المولودين إما قبل أو أثناء ثورة التحرير المباركة. من جهة أخرى، ينبغي التأكيد على أن غالبية هؤلاء الرجال، خاصة المنتسبين إلى الوحدات النظامية المشكلة، ينتمون إلى الطبقات الشعبية المتواضعة، ولذلك لا يمكنهم الإفلات من الرياح العاصفة التي تهز أجزاء كاملة من المجتمع الجزائري الذي يعيشون فيه ويتفاعلون معه، كما لا يمكنهم صم أذانهم أمام الموجات الفكرية التي تتقاذف الشباب الجزائري برمّته، بما في ذلك التيارات السياسية والإيديولوجية المتعددة الألوان. معنى ذلك أنه ليس هناك أحد يستطيع عزل الشرطي عن وسطه الطبيعي، عن عائلته، عن حيه أو “حومته” التي ولد فيها وترعرع في حضنها، وهو تماما كالسمكة التي لا يمكنها التحرك والحياة إلا في الماء. فالشرطي ليس إنسانا آليا ولا غريبا عن المجتمع، فهو “يعيش في قلب الأمور” كما وصفه الكاتب الكبير آلبير كامو في روايته الشهيرة “الغريب”، أي في قلب المجتمع يعرف أسراره ويتحسس نبضاته، فمثله مثل كل المواطنين له شعور وله إحساس وعليه واجبات وله حقوق أيضا. بعد هذا التحليل الموجز حول طبيعة الأجيال الثلاثة التي تعاقبت على تحمل مهام الشرطة في الجزائر منذ الاستقلال، نحاول الحديث عن ظروف العمل المفروضة على رجل الأمن عموما وعلى العناصر التابعة للوحدات النظامية المشكلة على وجه الخصوص. من دون الدخول في التفاصيل، لابد من الاعتراف بأن هذه الظروف أقل ما يقال عنها أنها “قاسية جدا”، حيث يعمل هؤلاء بعيدا عن عائلاتهم، ويعيشون داخل الثكنات بكل ما يترتب عن ذلك من آثار نفسية ضاغطة، ويخضعون للنظام المدعو “دورة 3/8”، الذي يقتضي الوقوف واليقظة لمدة 8 ساعات كاملة، مع الاستفادة من مدة راحة محددة، يمكن إلغاؤها في أي وقت إذا اقتضت الضرورة ذلك، ثم عليهم طاعة الأوامر من دون نقاش ولا جدال. زيادة على كل هذه الأعباء الداخلية المنهكة، تضاف مسؤولية مجابهة الحشود المتظاهرة التي تتطلب ضبط النفس ورباطة الجأش، التدخل بحكمة وحذر، مراعاة قواعد التسيير الديمقراطي للحشود، قبول تلقي الضربات مهما كانت موجعة من دون السعي لردها، صيانة العلاقات مع المواطن في كل الظروف، وأخيرا واجب تنفيذ أوامر القيادة التي كثيرا ما لا تتمتع بالوقت الكافي للنقاش والشرح، من أجل إقناع القاعدة بالمسببات أو الدوافع التي تقف وراء عملية أو موقف ما. فبغضّ النظر عن الحكم الذي بإمكان كل واحد منا إصداره حول المسؤوليات التي يتحملها هذا الطرف أو الطرف الآخر في قضية تمرد مجموعة قليلة جدا من أفراد الوحدات الجمهورية للأمن، أي القيادة من جهة والعناصر الغاضبة من جهة ثانية، لاسيما في موضوع خرق القواعد الأخلاقية المنصوص عليها في القانون الأساسي الخاص بمؤسسة الأمن الوطني، والتي يلتزم كتابيا ورسميا كل موظف شرطة باحترامها فور ولوجه مدرسة التكوين، لابد من التنويه بموقف السلطات العمومية التي تصرفت بسرعة وبكثير من الحكمة والتفاهم والبراغماتية، وذلك باستقبال ممثلي المحتجين والتحاور معهم في أعلى مستوى السلطة، وأخيرا تلبية معظم المطالب التي تقدموا بها، ما عدا غير المعقولة منها. إن الطريقة المعتمدة في معالجة هذا الملف من قِبل الدولة، لا تجد تفسيرا إلا في مدى تقديرها للمكانة المرموقة التي أضحت تحتلها هذه المؤسسة السيادية، بالنظر إلى تعدادها (208.000)، وبفضل التضحيات التي قدمها رجالها ونساؤها خدمة للوطن. وهنا ينبغي التأكيد على أن مؤسسة الشرطة الجزائرية تعد، بعد الجيش الوطني الشعبي، من الركائز الأساسية للبناء الوطني، ولذلك من الطبيعي أن تستهدف في أيامنا هذه التي تتميز بتحديات جيوسياسية واستراتيجية وأمنية خطيرة، إن على المستوى الوطني أو الإقليمي والدولي، من قِبل هواة الاصطياد في المياه العكرة والمختصين في المناورات والدسائس الخبيثة، سواء تصرفوا لحسابهم الخاص أو لحساب موكليهم في الداخل و/أو في الخارج. إن عظمة هذه المؤسسة ونبل مهامها وتحسن صورتها لدى المواطنين في السنوات الأخيرة، جعلت أيضا الرأي العام الوطني بمختلف فئاته وتوجهاته، يبدي فضوله ويعبر عن قلقه وحيرته أمام التحرك غير العادي لمجموعة من رجال الشرطة الشباب. وقد سجلنا ردود أفعال متنوعة، بين من تصرف بحسن نية سواء بتأييد المحتجين، أو بعدم الرضى على الطريقة التي اختاروها للتعبير عن انشغالاتهم، كل حسب معتقده وتقديره للأمر، ومن وجد فرصة سانحة لصبّ الزيت على النار وتأجيج الأوضاع لزيادة التوتر وبث الإشاعات المغرضة قصد المساس باستقرار الجزائر، الذي بات يزعجهم بل يقلقهم كثيرا، كل ذلك على أمل أن يطل عليهم وسط فصل الخريف “الربيع الجزائري” الذي طال انتظاره ممن يريدون خراب الجزائر ودمارها. لا شك أن الشرطة الجزائرية قد تجاوزت بسرعة هذه الحادثة العابرة كسحابة صيف، وستخرج منها بالتأكيد مرفوعة الرأس لأن أسسها صلبة، وعلى مسؤوليها أن يولوا المزيد من الاهتمام بمجال الاتصال، ليصبح دائما بين القمة والقاعدة التي تتكون غالبيتها كما سلف الذكر من الشباب الذين هم في حاجة ماسة إلى الاعتراف بقيمتهم ومحاورتهم وإقناعهم كي يؤدوا مهامهم بالوجه الأكمل. لا يخفى على أحد أن المديرية العامة للأمن الوطني كرست جهودا معتبرة في السنوات الأخيرة لتصحيح الاختلالات ومراجعة الأوضاع المترتبة عن الزيادة الهائلة في تعداد موظفيها، الذي انتقل من 80 ألف سنة 2009 إلى 208 آلاف في 2014. وبموجب خطة شاملة لتطوير الأمن الوطني على جميع الأصعدة، تمكنت من تحسين برامج التكوين المهني والتقني ورفع درجة وعيهم، التحكم أكثر في المسارات المهنية للموظفين وقد سجلت حوالي 70 ألف ترقية من رتبة إلى أخرى، خلال الأربع سنوات الأخيرة، بينما كانت لا تتعدى سابقا 900 ترقية في السنة. وضمن الخطة نفسها منحت عناية خاصة لإدخال التقنيات الحديثة في تسيير جميع فروع الإدارة المركزية والمحلية على حد سواء، وأعطيت الأولوية لتعزيز العلاقات بين مصالح الأمن والجمهور، من خلال الشرطة الجوارية التي تحتك يوميا بالمواطنين وقريبة من مشاكلهم وانشغالاتهم. ثم إن مشاركة إطارات الشرطة في العديد من التظاهرات التي تنظمها جمعيات المجتمع المدني في إطار تحسيس وتوعية المواطنين ضد الآفات الاجتماعية المختلفة التي تهدد المجتمع الجزائري، سواء على المستوى الوطني أو المحلي، قد ساهم بشكل كبير في إزالة الكثير من الحواجز النفسية التي لا تزال قائمة للأسف الشديد في تصور بعض المواطنين لسلك الشرطة باعتباره “آلة قمع” ليس إلا. وفي الأخير، نشير إلى أن إقرار القانون الأساسي الخاص بموظفي الأمن الوطني في أواخر سنة 2010، قد مكن من تحسين محسوس للأوضاع المادية والاجتماعية لرجال الأمن على جميع المستويات، حيث بالمقارنة مع الماضي، عرف سلم أجور موظفي الأمن ارتفاعا مضاعفا، وتبقى بطبيعة الحال ضرورة مواصلة هذه الجهود وتكثيفها للتكفل تدريجيا بكل انشغالات رجل الأمن، لاسيما على ضوء الأحداث الأخيرة، شريطة أن تلبي الدولة طلبات المديرية العامة للأمن الوطني فيما يتعلق بالوسائل المادية. فبما أن الأجيال التي ساهمت في بناء الشرطة الجزائرية، كما هو مذكور أعلاه، تعتبر بمثابة أسرة واحدة، من الجد إلى الحفيد، فإنه لا يحق لي، بصفتي متقاعدا أنتمي إلى جيل 1962، إنهاء هذه المساهمة المتواضعة من دون الحديث عن زملائي متقاعدي الأمن، هؤلاء الرواد البواسل الذين كان لهم الشرف والفضل في وضع اللبنات الأولى لمؤسسة الشرطة الجزائرية في 1962، وساهموا بعد ذلك في ضمان الأمن والاستقرار لوطنهم كي يتقدم ويتطور بالسرعة المأمولة، وكل ذلك على حساب صحتهم ومصالحهم الشخصية مضحين بأسرهم وبمستقبل أبنائهم. إن الذين لا يزالون منهم على قيد الحياة، وهم أكثر من 20 ألف، يوجدون اليوم في سن متقدمة بالنسبة لمعظمهم، سن كل المخاطر، يعانون من صدمات وعاهات وأمراض مزمنة لا علاج لها ولم يكن لهم الحظ ولا الحق في الاستفادة من نفس الحقوق والمزايا، التي تحصل عليها زملاؤهم سنة 2004، 2008 و2010. إن المبلغ الزهيد لمعاشهم لا يسمح لهم إطلاقا بإنهاء مشوار حياتهم في أجواء من الاطمئنان والسكينة المستحقة، بالنظر إلى خصوصية مسارهم المهني الذي لا يعادله أي مسار آخر من حيث التضحيات والمعاناة التي يفرضها. فهناك المئات منهم يقيمون منذ أكثر من ثلاثة عقود في سكنات وظيفية داخل أحياء الشرطة لأنهم لم يتمكنوا خلال فترة عملهم من اقتناء أو بناء مسكن يأوي أبناءهم، مع العلم أن أغلبهم من المعوزين البسطاء. ففي انتظار الرحيل إلى دار البقاء، إنهم يعيشون في حسر نفسي مقلق خوفا من طردهم بين عشية وضحاها ولا يريدون مغادرة الحياة الدنيا وترك عائلاتهم ترمى في الشارع، رغم التعهدات التي تكررت مرارا على لسان مديري الأمن السابقين وأكدها بقوة المدير العام الحالي بأن لا يتم أبدا اللجوء إلى مثل هذا الحل الجائر. إن المعنيين بالأمر ينتظرون بفارغ الصبر الحل النهائي والرسمي لهذا المشكل الذي طال أمده. وعندما يجد هذان الانشغالان حلا مرضيا، أي رفع مبلغ المعاش من جهة، والتنازل عما يسمى بالسكنات الوظيفية لصالح ساكنيها، من جهة ثانية، حينها يمكن لمتقاعدي الأمن الوطني أن يشعروا بأن الدولة التي خدموها بكل تفان ونكران الذات، لا تتخلى عنهم بل تحترمهموتصون حقوقهم وحقوق أبنائهم. فعلى السلطات العمومية التي ما فتئوا يراسلونها منذ سنوات حول هذين الموضوعين بالطرق القانونية الهادئة، أن تبذل كل ما في وسعها لإيجاد الحلول الملائمة لهاتين المشكلتين في أقرب الآجال الممكنة. [email protected]