يبقى ملف العائلات المطرودة من الملفات “الاجتماعية” التي أكلها غبار نسيان الإدارة في كبريات المدن الجزائرية، كالجزائر العاصمة وقسنطينة ووهران وغيرها، عالقا وعددها في ازدياد من شهر لآخر، مثلما تزداد وتتضاعف معاناتها.. تراهم في الشارع يفترشون الأرض ويتغطون بالسماء، لا ينير ليلهم الدامس إلا نور القمر، أما في فصل الشتاء والبرد فالجحيم هو عنوان لياليهم، وحتى نهارهم.. جزائريون فقدوا “العش” الذي كان يؤويهم بقرار من العدالة، فلم يجدوا أمامهم إلا الشارع.. عندما تحلّ برامج الترحيل يأملون أن تلتفت إليهم السلطات العمومية، وتنظر إليهم بعين الرحمة.. لكن هيهات.. فهم في الشارع، ليس لهم الحق في الإقامة، ولا حق لهم في “شهادة الإقامة”.. وهي وثيقة أساسية في أي ملف لطلب السكن.. أين يذهبون؟ لا هم من سكان القصدير، ولا هم من نزلاء العمارات الهشّة الآيلة للسقوط، ولا هم من سكان الأقبية والأسطح.. شكلت قضية العائلات المطرودة على مر السنوات الخمس الماضية صداعا آخر للسلطات العمومية على كل المستويات، لاسيما في ظل البرنامج الذي سطره رئيس الجمهورية في الخماسي الأول 2010-2014 والخماسي الثاني 2015-2019 للقضاء على أزمة السكن في الجزائر، ورغم هذا فإن ملف العائلات المطرودة لا يزال الغبار يلفه من كل جانب، ولا يزال قابعا في أدراج الحكومة، ما يطرح العديد من التساؤلات حول نية السلطات العمومية في القضاء الحقيقي على أزمة السكن التي صرح وزير السكن بأنها ستكون مع نهاية السنة الجارية. وخلافا للعائلات القاطنة بالأحياء القصديرية والعمارات المهددة بالانهيار والأقبية والأسطح، وحتى الحصص السكنية التي خصصت لترحيل العائلات التي تعاني من الضيق، فإن ملف العائلات المطرودة يبقى غامضا ويواجه مصيرا مجهولا إذا استمر تجاهل السلطات العمومية وتهربها من الخوض في هذا الملف، مثل بقية الملفات التي تتطلب تعجيل النظر فيها. اقتربت “الخبر” في جولة قادتها إلى بعض العائلات التي عانت الأمرّين وواجهت أقسى الظروف على مر هذه السنوات، وقاسمتهم يوما من المعاناة والحياة التي يعيشونها منذ صدور الأمر بالطرد في حقهم، وكان لكل منها قصة تحكي قسوة الظروف عليها، لتحوّلها مع مرور الأيام إلى عائلات “دون هوية” و “دون عنوان”. عائلة شلغوم.. وفاة الزوج بداية حياة الشارع البداية كانت مع عائلة شلغوم التي تعيش بخيمة بحي 532 مسكن بالعالية في الجزائر العاصمة، صدمتنا الحالة المزرية التي تعيش فيها، فهي مغطاة بالزنك. تقول السيدة جمعة التي تقطن الخيمة رفقة ابنتيها وابنها زينو وزوجته، إنها كانت تعيش رفقة زوجها المعاق بنسبة 100% بشقتهم في باب الزوار، ولكن مع صعوبة صعوده إلى شقته قررنا شراء شقة أخرى تقع بالطابق الأرضي بحي 532 مسكن بالعالية، وبعد مرور سنوات من السكن فيها، وبعد وفاة زوجي، خرجت علينا المالكة الأولى بقرار من المحكمة تطالب فيه باسترجاع مسكنها، تقول محدثتنا، وطُبق الحكم في 11 جانفي من سنة 2010. تواصل السيدة جمعة سرد معاناتها المريرة، وسيل من الدموع ينهمر من عينيها، وقالت إن حالتها الصحية والنفسية تعقدت أكثر بعد طردها من الشقة، فتنقلت بين أقاربها في باب الزوار، ولكن مع الإحراج الكبير الذي سببته لهم، قررت أخيرا رفقة ابنها بالتبني شغل الخيمة التي كانت عبارة عن صالة ألعاب بناها أحد أبناء الحي الذي هو صديق لابنها، وغطوها بالبلاستيك، ثم نقلوا أثاثهم إليها. وبقيت العائلة على هذه الحال في ذهاب ورواح بين سلطات البلدية ومصالح الدائرة، تستفسر عن الملف المودع لديها، “يخبرونني في كل مرة أن ملفي ليس تابعا لعمليات الرحلة، ويطلبون مني الانتظار إلى غاية الإفراج عن قوائم السكن الاجتماعي الموجهة للبلديات، ولكني كنت أُستثنى منها في كل مرة”، ثم يوجهونني إلى بلدية الحراش مكان إقامتي السابقة، وحتى الرسائل التي وجهت للوزير الأول ورئيس الجمهورية لم تجد صدى، ولا أحد تدخل لانتشالي وأبنائي من هذا الوضع المزري”. وتضيف محدثتنا بأن العيش في هذه الخيمة حرم ابنها المتزوج حتى من الحصول على منصب عمل بسيط لدى الدولة، فمسابقات التوظيف يشترط فيها شهادة الإقامة، أما هم فقد أصبحوا مواطنين بلا مأوى وبلا عنوان، “فهل أصبحنا غرباء في بلدنا الجزائر يا ترى؟”. ويبقى الحلم الوحيد للسيدة جمعة هو التفاتة جادة من السلطات العليا للبلاد من أجل تحريك قضية المطرودين وانتشالهم من قسوة الشارع، وجمع أفراد عائلاتها تحت سقف واحد فقط. عائلة بختة.. عنوان التضحية من أجل الوطن عائلة بختة محمد الذي احتواه شقيقه بمنزله في بني مسوس، لأنه لا يقوى وأبناءه على تسديد مصاريف الكراء ومصاريف العيش، نظرا لقلة دخل العائلة، فقصتهم مأساوية هي الأخرى. روى لنا أحد أفراد العائلة ياسين، شاب في الثلاثينيات من العمر وموظف بسيط في شركة وطنية، بأنهم كانوا يعيشون في مسكن وظيفي ب2 شارع محمد ولد زميرلي في حسين داي، سلمته سلطات البلدية سنة 1992 لوالده الذي كان موظفا بسيطا في بلدية، وبعد مرور سنوات من شغله، خرجت عليهم البلدية بقرار قضائي يلزمهم بالخروج منه، ولكن دون تقديم البديل رغم علم مصالحها بحالتهم الاجتماعية، ورغم عدم استفادته السابقة من أي صيغة سكنية، ولا السكن الاجتماعي الذي قدموا ملفا للاستفادة منه. وفي سنة 2012، قررت المحكمة، بناء على طلب سلطات البلدية، استعادة المسكن بعد تقاعد والده، فطُردوا منه، لتبدأ معاناتهم، فاستقبلهم عمه الساكن ببلدية بني مسوس، “مع الضيق الشديد الذي أصبحنا يعيشون فيه بتلك الشقة، اضطررت أنا وأخي الخروج من المنزل والمبيت في مقرات عملنا، فأنا أبيت بزاوية في مقر عملي، أما أخي الذي يعمل سمكريا فغالبا ما يستسمح أصحاب الورشات أو المنازل التي يعمل فيها بالمبيت بها، فلا مأوى لنا سوى مقرات عملنا”، يقولها بحسرة شديدة. واستمرت العائلة على هذه الحال، وواصلوا سعيهم الحثيث لدى السلطات البلدية لعلهم يدرجون ملفهم ضمن العائلات المستفيدة من عملية الترحيل، أو حتى حصة السكن الاجتماعي التي قدمتها الولاية لكل بلدية في العاصمة، ولكن للأسف باءت كل محاولاتنا بالفشل، “لأننا لا نزال على حالتنا إلى غاية اللحظة”. وقد أثار هذا الأمر استغرابا ممزوجا باستياء، من قِبل ياسين الذي قال “كيف يعقل أن تستفيد العائلات التي تقطن البيوت القصديرية وتخصص لها الحكومة وكذا مصالح الولاية آلاف الحصص السكنية، في حين أن العدد القليل الذي في مثل حالتنا لا يتم النظر فيه، ولم يأخذ هذا الملف حيزا معينا من اهتمام الحكومة.. هل يعقل هذا؟”. عائلة بلخوس.. وللرُضَّع نصيبهم من المعاناة توجهنا بعدها إلى عائلة بلخوس التي تقطن كوخا بجوار متوسطة ذبيح الشريف في باب الجديد بأعالي القصبة، وهي إحدى ضحايا قانون الطرد الذي صدر في حقهم في أفريل من السنة الماضية، عندما قررت وزارة التربية الوطنية بالتنسيق مع ولاية الجزائر استعادة السكنات الوظيفية لإعادة توزيعها على الموظفين الجدد، ولكنها بالمقابل شردت عائلات بأكملها بعد أن كانت تلك السكنات هي كل ما تملك من مأوى خلال عقود من الزمن. يقول لمين رب عائلة وأب ل3 بنات، إحداهن رضيعة لم يتجاوز سنها 7 أشهر، كان نصيبها هي الأخرى أن تعيش أول أيامها في كوخ من حطب ليس في الريف وإنما بأحد أحياء العاصمة، لا لشيء إلا لأن الوزارة نفذت محضر الطرد الذي صدر بتاريخ 15 أفريل من السنة الماضية بعد أن فارق جداها الحياة، ليجدوا أنفسهم في الساحة المقابلة للمدرسة التي ولدوا بين أسوارها وترعرعوا فيها، وبعد مرور سنوات وتزوجوا وأصبح لديهم عائلات، فاجأهم قرار الطرد منها بحجة أنهم اقتحموا تلك السكنات في سنة 2008 فقط، وأنهم لم يعيشوا تحت سقف تلك المدرسة. ويضيف لمين الذي يشتغل حارس موقف للسيارات المتواجدة بالحي بأنه لم يستطع مغادرة المكان وفضل الاشتغال في الحي فقط، ليبقى قريبا من عائلته وعائلة شقيقه أيضا، لعدم وجود من يكفلهم، إلى أن تحل ساعة الفرج عليهم، ويستفيدوا من السكن مثل بقية العائلات. ويتابع محدثنا بأن السكن الوظيفي الذي طُرد منه رفقة شقيقه كريم وأفراد عائلاتهما يعود إلى جديهما اللذين استفادا منه بحكم عملهما، لكن مع وفاتهما بقي والدهما يشغل المسكن ولم يستفد لا من ترحيل إلى مسكن آخر ولا من صيغة الاجتماعي، ليكون نصيبنا بعد كل هذه السنوات الطرد على أساس أننا اقتحمتاه، في وقت تشير كل وثائقنا إلى أننا ولدنا فيه وترعرعنا فيه”، يقولها بحسرة كبيرة. وهو يرافقنا إلى خارج الكوخ، يشير محدثنا إلى الأغراض التي لفها رفقة شقيقه بأغطية وتركاها بجوار الكوخ لحين الإعلان عن اسميهما في قائمة المستفيدين من السكنات الاجتماعية التي تعرفها بلديات العاصمة منذ جوان من السنة الماضية. أما عائلة سماش التي كانت تقطن منزلا “كولونيال” بحوش الزبيري في المنطقة الصناعية لبلدية العاشور منذ سنة 1975، حسب رب العائلة أمحمد بن علي ابن شهيد، فقد تم طردهم منه إثر خصام جرى بينه وبين أحد السكان بالحوش حول ملكية مجاورة قرر ترميم سطحه، ومستودع صغير بجوار المنزل الذي يقطنه. وقال عمي محمد إن عملية الترميم التي ابتدأها، بعد أن اشتراه سنة 2000 في إطار تسوية وضعية وملكية السكنات والأحواش، أثارت غضب جاره الذي قرر مقاضاته بمحكمة الشراقة، وبعد النظر في القضية وتحويلها إلى مجلس قضاء البليدة، حُكم ضده بالطرد من المنزل في 26 أفريل 2015، ليكون سبيله الوحيد بعد خروجه منه منذ نحو 6 أشهر الكراء عند أحد المواطنين بالبلدية، وهو عبارة عن منزل أرضي صغير، بغرفتين فقط وساحة صغيرة تابعة له، “لأني لا أملك الجرأة الكافية لبناء بيت بأحد الأحياء القصديرية من أجل الحصول على سكن مثلهم”. يواصل محدثنا سرد قصته، قائلا إن أحد أبنائه المتزوجين توجه إلى بيت أنسابه، فيما لجأ آخر للكراء أيضا، وبذلك يكون قرار الطرد قد قضى على شمل العائلة، ولم يبق معه إلا ابنه الصغير. وبعد كل هذه المعاناة، والتردد المستمر على مقر البلدية، لطلب تعجيل النظر في قضيته، أو على الأقل مساعدته في إيجاد منزل للكراء وحماية العائلة من الشتات، رُفض طلبه، “وها أنا الآن أعيش أوضاعا قاسية رفقة زوجتي وابني الصغير، فهل هكذا يعامل أبناء الشهداء في بلد الشهداء؟”، يختم عمي محمد كلامه.