يحاول الباحث في علم الإجتماع السياسي، ناصر جابي، في هذا الحوار مع ”الخبر”، تفكيك إسقاطات ترشح الرئيس بوتفليقة، في ظل وضعه الصحي الحالي، على الشارع الجزائري. ويحذر جابي من أن الحراك الجاري في المجتمع يعبّر عن حالة يأس خطيرة قد تدفع للصدام والزج بمؤسسات الدولة الأمنية في مواجهة مع الشعب. عن ماذا يعبر ترشيح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة في ظل حالته الصحية؟ أعتقد أن أول ما يحيل عليه هذا الترشيح هو أزمة النظام السياسي الوطني المستفحلة في تجديد نخبه وعدم قدرته على تنظيم عملية التداول السلمي على السلطة بين نخبه السياسية المتنافسة. نظام يظهر بصورة العاجز عن إيجاد جزائري واحد من أربعين مليونا بديل لبوتفليقة. نظام بينت هذه الانتخابات المقررة في أفريل القادم ومحطات أخرى من قبل أن أزماته متعددة الأوجه قد وصلت إلى مداها. فمن جملة الأمور التي عكستها كواليس هذه الانتخابات التي ترشح لها بوتفليقة في نهاية الأمر أن النظام بتسييره السائد عاجز عن إصلاح نفسه من الداخل وبواسطة المؤسسات الرسمية الحاضرة دستورا وقانونا، مؤسسات رغم كثرتها بينت أنها عاجزة عن إنتاج نخب سياسية متنوعة تعهد إليها مسألة تسيير البلد. فقد بينت هذه الانتخابات وهذا الترشيح الغريب أن لا دور للمؤسسات يمكن أن يعول عليها الجزائريون، فقد تم تغييب المؤسسة التشريعية والتنفيذية والأحزاب، لتتحول السلطة الفعلية إلى أفراد وشلل صغيرة لا يعرف عنها الجزائريون إلا أسماء وعلاقات قرابة في بعض الحالات، في غياب أي رقابة قانونية ودستورية، ما يسقط هذا النوع من السلطة تحت طائل الابتزاز الدولي من كل نوع والاختراق من قبل مجموعات صغيرة وشلل في غياب التسيير المؤسساتي والرقابة الشعبية، وهو ما يرهن بكل تأكيد مستقبل البلد أكثر فأكثر. ما الذي أقلق في ترشح الرئيس بوتفليقة.. هل طول مكوثه في الحكم أم عدم قبول فكرة استمراره في هذا الوضع الصحي؟ بوتفليقة تم تقديمه عند مجيئه في 1999 على أنه حل لمشاكل الجزائر أو جاء على الأقل للمساهمة في حل مشاكل النظام وهو ابن النظام الذي يعرفه من الداخل، فإذا بالرجل يتحول بعد عشرين سنة إلى مشكل كبير للجزائر ولنظامها السياسي بهذا التشبث بالسلطة. نظام يحب الاعتراف بأنه كان يعيش الكثير من المصاعب، كما عبرت عنها أحداث أكتوبر 88. فبوتفليقة إذن لم يحل المشاكل السياسية التي كان يؤمل أن يساهم في حلها وزاد في تعقيد الموجود منها بهذا الترشيح لمنصب الرئاسة وهو في هذا الوضع الصحي المتدهور. فقد وجد بوتفليقة دستور 1996 يحدد العهدات على سبيل المثال، فما كان منه إلا فتح العهدات، ما زاد من غلق هذا النظام أكثر وصعب من عملية التداول على السلطة حتى بين أبنائه من داخل المؤسسات. زاد بوتفليقة، من جهة أخرى، من حدة الجهوية التي تحولت الى مرض فعلي أثناء فترة حكمه الطويلة. الجهوية التي لم يخترعها بوتفليقة، لكنه أوصلها إلى مستوياتها القصوى بعد عشرين سنة من الحكم. زاد كذلك من تمركز السلطات وعدم الفصل بينها كما كان منتظرا منه، وهو الذي قُدم لنا كممثل لتيار ليبرالي داخل حكم بومدين، لكنه طور على العكس نظام تميز بشخصنة كبيرة للسلطة وبشكل خطير، غابت فيه المؤسسات التي عوّمها ولم تعد قادرة على الحركة والفعل السياسي المستقل كمركز قرار يخدم مشروع بناء دولة عصرية كان يعول الكثير على بوتفليقة في بنائها عندما جاء في 1999. فبدل بناء الأحزاب العصرية والبرلمان القوي والنقابات النشطة والمؤسسات الإعلامية المؤثرة التي كانت الجزائر في حاجة إليها، اقترح بوتفليقة على الجزائريين الزاوية والولاء الجهوي والشخصي كقاعدة لحكمه. الأمور بالطبع تعقدت أكثر بعد استفحال مرضه، خاصة أنه استطاع أن يركز الكثير من الصلاحيات بين يديه، لتتحول الرئاسة إلى مركز قرار بصلاحيات سلطانية لكنها معطلة ولا نعرف بالضبط من يسيرها منذ نهاية العهدة الثالثة. الرئاسة التي غابت تماما خلال فترة الأزمة التي عاشتها الجزائر في التسعينيات، عادت إذن بقوة كمركز سياسي مهم في حكم بوتفليقة، لتتم مركزة القرار بين شلة ذات طابع جهوي محدود في غياب أي دور لأغلبية الجزائريين الذين يتذمرون من هذا الوضع بشكل فردي وجماعي، رغم أن الكثير من النخب قد ”قبلت” على مضض هذه الأوضاع وتعودت عليها، لكن للأسف لم تستخدم هذه الصلاحيات في تحسين أداء النظام السياسي الذي تحول إلى خطر فعلي على الدولة والأمة بتسييره الحالي. هل هذا الحراك رد فعل على صدمة استمرار الرئيس وسيزول مع إكراه الأمر الواقع؟ أم هو لحظة وعي تاريخية للجزائريين ستستمر؟ من يستمع إلى الجزائريين هذه الأيام يمكن أن يقيس حالة اليأس الخطيرة التي وصلوا إليها وهم يشاهدون كيف تحول البلد إلى مهزلة على مستوى الإعلام الدولي، وهو يعيش محطة انتخابية حرجة. شعور بالهوان يشعر به حتى من كان مؤيدا لبوتفليقة ويقيّم بالإيجاب فترة حكمه الطويلة، لكنه يرفض الآن أن يتم ترشيح رجل مريض إلى عهدة بخمس سنوات بعد مكوثه في الحكم لعشرين سنة، خاصة أن الجزائريين يعلمون أن بوتفليقة بعد أن ترشح سيفوز بهذه الانتخابات، فليس واردا أن يخسرها بأي حال من الأحوال وقد يقرر أن يفوز بها بنسبة عالية كتوديع شرفي له. هم مقتنعون أنهم ”سينتخبون” رجلا مريضا ينطلق في عهدة طويلة دون أن تكون له الإمكانيات الصحية للقيام بواجباتها، حتى في حدها الأدنى كما كان سائدا خلال العهدة الرابعة، وضع يرفضه أغلبية الجزائريين حتى وإن لم يعبروا جماعيا عن ذلك حتى الآن. من جهتي أتوقع أن تكون لهذا الترشح والانتخاب لاحقا آثار طويلة المدى على العلاقات بين المواطنين والنظام السياسي، ستعبر بكل تأكيد بأشكال كثيرة سلبية سنراها في السنوات القليلة القادمة على مستوى النخب التي ستزيد هجرتها وعلى مستوى السلوك السياسي للمواطنين. السلطة حذرت من اللجوء إلى الشارع وأويحيى قال إن الدولة قادرة على ضبطه. كيف تتصور تعاملها مع ما يجري؟ هذا سؤال أكثر من مهم، لأنه يضع مؤسسات الدولة الأمنية على المحك في علاقاتها بالشعب في هذه اللحظة السياسية الحساسة. هل ستقبل المؤسسة الأمنية أن تُقحم في مواجهات ضد الشعب من قبل شلل سياسية هي نفسها في قرارة نفسها غير راضية تماما عن هذا الترشيح حتى ولو لم تستطع التعبير عن رأيها بحكم الالتزامات الوظيفية والمصالح؟ سؤال أكثر من مهم بالنسبة لهذه المؤسسات التي تمثل كل مناطق البلاد بطابعها الشعبي وتأطيرها النخبوي المتميز، سواء تعلق الأمر بالدرك أو الشرطة أو الجيش. مؤسسات تتكون من مواطنين يعيشون وضع بلد عن قرب سيكون من الجنون والحماقة السياسية أن تستعمل ضد إرادة الشعب وهو يعبّر عن رأيه في محطة سياسية حرجة من تاريخ البلد السياسي والتاريخ سيحكم على من يزج بهذه المؤسسات الوطنية ضد شعبها. المفارقة هنا أن بوتفليقة الذي يحسب له جزئيا على الأقل استتباب السلم بعد 1999 بقانون المصالحة، يُخشى أن يكون سببا في عودة الاضطراب واللاأمن إلى البلد بسبب هذا التشبث المرَضي بالسلطة وعدم الاستماع إلى صوت العقل من قبل شلل لا ترى في كل هذه الانتخابات إلا وسيلة للمزيد من الريع والمصالح حتى ولو كان ذلك على حساب استقرار البد. أكثر ما يخيف من أي حراك شعبي هو تحوله إلى العنف.. هل هناك احتمالات لذلك؟ الحراك الاجتماعي في الجزائر بخصائصه المعروفة كان يلجأ إلى أنواع تعبيرية من العنف، كما شاهدنا ذلك عدة مرات في السابق، عندما كان يقود هذا الحراك شباب المدن الكبيرة وأبناء الأحياء الشعبية المتذمرون من أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وهو احتمال مازال قائما جزئيا على الأقل إذا لم تخرج هذه المرة فئات اجتماعية أوسع ونخب أكثر تنوعا للتعبير عن رأيها كموقف سياسي وليس اجتماعي أو اقتصادي كما كان يسود في السابق. بالطبع هناك مسؤوليات سياسية وأمنية يجب أن تقوم بها السلطات الأمنية بحماية المحتجين الذين لا يقومون إلا باستعمال حق دستوري يهدفون، من خلاله، إلى حماية الوطن والخوف على مصيره. في ظل السلبية التي تحكم النظرة للأحزاب.. ما الذي ينبغي لهذه الأخيرة أن تفعله إزاء هذا الحراك، هل بالانخراط فيه أو دعمه من بعيد؟ الأحزاب السياسية لا تملك القوة الكافية لتأطير هذه الحركات الاحتجاجية التي أتوقع أن تكون مختلفة عما سبقها من حركات، على الأقل في تنوعها السوسيولوجي وحجمها الكبير وطابعها الوطني الذي سيمس كل مناطق تواجد الجزائريين حتى في المهجر، كما ظهر ذلك في باريس وممكن أن يظهر في كندا، حيث تتواجد هجرة نخبوية جزائرية جديدة لن تكون بعيدة عن الاهتمام بما يحصل في بلدها، وهي اليوم تعيش جو الحرية في البلدان الغربية ومن دون ضغوط كما هو حال مواطنيهم في البلد. لو كانت هذه الأحزاب تملك القدرة وتريد القيام بدورها كممثلة عن الجزائريين، فإن الوضع العادي أن تقوم بتأطير هذه الحركات وحتى تقودها، هذا هو دورها.. لكن في غيابها، المواطنون هم الذين سيتكفلون بذلك بكل الصعوبات والنقائص المتوقعة في مثل هذه الحالات، في مجتمع لم تعط له الفرصة لكي يمارس حق الاحتجاج والتظاهر المنصوص عليه قانونا، فالاحتجاج حالة صحية فقط لا بد من تأطيرها والحفاظ على سلميتها لكي تستطيع إيصال كلمتها. ما رأيك في منطق المعارضة التي قررت المشاركة في الانتخابات اعتبارا من أن المشاركة هي نوع من مقاومة العهدة الخامسة؟ المعارضة، كما ظهرت في زرالدة في جوان 2014، كانت الانتخابات التشريعية هي التي فجرتها، وبالتالي لا يمكن التعويل على رئاسيات 2019 أن تعيد لها اللحمة الغائبة. على العكس تماما، فهي ستدخل الانتخابات مقسمة حتى بين أبناء المدرسة الواحدة، كما هو حال الإخوان الذين انقسموا بين موال ونصف موال ومعارض. كل المعارضين يعرفون أن الانتخابات السياسية في ظل النظام الحالي ليست وسيلة تغيير سياسي ولا تداول على السلطة، فهي تشارك من أجل حسابات شخصية في بعض الأحيان تمثل طموحات أشخاص وللتعريف ببرامجها والحصول على حضور إعلامي حتى لا تختفي تماما أو تضعف أكثر، أي العمل الحزبي في حده الأدنى. الأحزاب تعرف أنها غير مقبولة كمؤسسات سياسية رسمية داخل هذا النظام الذي اعترف بوجودها القانوني شكليا لكنه لا يعترف بها في الواقع، فالنظام من هذه الزاوية لم يبتعد عن المنطق الأحادي بعد أكثر من ربع قرن من التعددية الرسمية.