أجمع المشاركون في المنتدى العالمي لثقافة السلام، الذي احتضنته هولندا نهاية الأسبوع الماضي، على أن سلوك التعايش وتقبّل الآخر والانحياز إلى إنتاج مستقبل آمن وسلمي للعالم، يمر حتما عبر إحداث "ثورة" في مناهج التعليم. كما اتفقوا على حقيقة أن استمرار العالم في سياسة فك الارتباطات عبر الحروب والنزاعات المسلحة يهدد البشرية بفناء وشيك. ضاقت قاعة المحاضرات بقصر السلام في مدينة لاهاي الهولندية بما رحبت، رؤساء جمهوريات سابقين وحاليين ووزراء وشخصيات دولية مرموقة، اصطفوا داخل هذا الفضاء الغارق في الخضرة.. حدائق تحيطه من كل الجهات وتنمّق واجهته الزجاجية. افتتحت وكيلة وزارة الخارجية الهولندية، جوك برندت، منتدى السلام العالمي، مذكرة برمزية مدينة لاهاي وقصر السلام الذي يتربع في قلبها، فالمكان يحوي العديد من المؤسسات الدولية، لعل من أشهرها محكمة العدل ومعهد السلام. قبل أن تحيل الكلمة إلى رئيس مؤسسة "كارنيجي" ومدير القصر، إيريك دي باديتس، الذي شدد على أن "الأحداث في الشرق الأوسط تشكل اليوم قلقا حقيقيا في العالم"، ثم أضاف "لن أتحدث عن الدين الذي ينظر إليه كمصدر للخلافات بل عن الدين الذي أراه مصدرا للإلهام، وفي هذا الاتجاه قمنا في السابق بدعوة كل الزعماء الروحيين عبر العالم من أجل تدارس الكيفيات الأمثل التي تمكننا من تجاوز هذه النظرة القاصرة للعقائد والانتماءات الدينية". وذكر المتحدث بالظروف التي تأسست فيها مؤسسة "كارنيجي" في 1889 وكيف أن المناسبة كانت أيضا لإطلاق قيمة "ثقافة السلام" بحضور القيصر الروسي "فتقرر بناء قصر السلام وتأسيس المحكمة الدولية بدعم من رجل الأعمال السيد كارنيجي، والقصر يضم اليوم مكتبة تحوي ما لا يقل عن مليون منشور حول موضوع السلام، كما يضم معهدا يفوق عدد الطلبة المسجلين فيه الألف يحملون جنسيات مختلفة". أخذ رجل الأعمال والشاعر الكويتي، عبد العزيز سعود البابطين، رئيس مؤسسة البابطين الثقافية، صاحبة المبادرة والمنظمة للمنتدى بالاشتراك مع معهد السلام العالمي واللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر وجامعة ليدن الهولندية ومؤسسة كارنيجي، الكلمة حيث قال "إنَّ هَذَا المُنتَدَى ثمرَةٌ لِمُبَادَرَتِنَا باسْمِ المُؤَسسةِ حَولَ "ثقَافَةِ السَّلامِ مِنْ أَجْلِ أَمْنِ أَجْيَالِ المُستَقبلِ" التي قَدَّمْنَاهَا في جَلْسَتينِ مُتَتَالِيَتَينِ إلى الجَمْعِيَّةِ العَامَّةِ للأُممِ المُتحدَةِ في السَّابِعِ مِنْ سِبتَمبر عَامَ 2017 ثمَّ في الخَامِسِ مِنْ سِبتَمبَر 2018، بِهَدفِ تَدْريسِ مَبادِئ ثَقافَةِ السَّلامِ العادل بينَ الطلَبَةِ مِنَ الحَضَانَةِ إلى الجَامِعَةِ، وكُنَّا عَرَضْنَا حِينَهَا "المَنْهَجَ النَّمُوذَجَ" الذي أَعَدَّتْهُ المُؤسَّسةُ وتَمَّتِ المُوَافَقَةُ عليهِ وَإقْرَارُهُ بالإجماع".وبعد أن أشار إلى قيمة السلام التي جاء النبي محمد، صلى الله عليه وسلم ليرسخها ويكرسها وبدا ذلك جليا عندما أمر صحابته في إحدى الغزوات بأن لا يقطعوا شجرة وأن لا يقتلوا امرأة أو طفلا أو حيوان، دعا الأمير تركي الفيصل آل سعود، ممثل المملكة العربية السعودية، إلى الاستثمار في القواسم التي تجمع شعوب العالم والابتعاد عن ما يفرقها ويشتت شملها ويزرع الفتن بينها. واغتنم رئيس جمهورية مالطا، جورج فيلا، فرصة خطابه الافتتاحي للمنتدى، من أجل دعوة مؤسسة البابطين لتنظيم الدورة الثانية من المنتدى العالمي لثقافة السلام في بلده، ولم يتردد رئيس المؤسسة في الإعلان عن قبول الدعوة.
التعليم وحماية التراث
خصص المنظمون الجلسة الأولى التي ترأسها الحارث سيلايجتش، رئيس جمهورية البوسنة والهرسك الأسبق لإشكالية "التعليم وحماية التراث الثقافي". واستهل الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، يوسف بن أحمد العثيمين، النقاش منددا ب "تدمير التراث في الوطنين العربي والإسلامي"، مستدلا على ما وصفه ب"التطهير الثقافي" الذي تشهده دول عريقة مثل اليمن وسوريا والعراق وليبيا بسبب النزاعات المسلحة، مؤكدا على أن "الإسلام الصافي يحمي أماكن العبادة ويحرم الاعتداء على التراث الإنساني". وبعد مداخلات ذهبت في نفس الاتجاه ل الطيب البكوش، الأمين العام للاتحاد المغاربي وخالد اليماني، وزير الخارجية اليمني، ورئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بيتر مورر ورئيس جمعية الهلال الأحمر الكويتي، هلال الساير، أعطى عمدة باليرمو الإيطالية، لولوكا أورلاندو، نكهة خاصة لهذه الجلسة عبر حديث امتزجت فيه الطرفة بالتجربة بالأمثلة من الواقع حول استرجاع هذه المدينة الإيطالية الكبيرة لسلمها وأمن مواطنيها بعد أن كانت تعرف ب "عاصمة المافيا". يقول أورلاندو "قبل أربعين سنة كانت باليرو توصف بعاصمة المافيا، لكنها اليوم صارت نموذجا في الأمن والأمان والتعايش"، قبل أن يضيف "عشنا بعد الحرب على المافيا حروبا أخرى باسم الهوية والدين، لكن التجربة كانت مفيدة فقد أوصلتنا اليوم إلى مراجعة الكثير من القيم والمبادئ التي تحكم العلاقات الإنسانية"، ثم استطرد "بفضل هذه التجربة باليرمو اليوم هي أأمن مدينة في إيطاليا، كما أنها تحتل المرتبة الثالثة سياحيا بعد روما وفلورانسا ومتقدمة على البندقية، كما تحولت إلى فضاء كبير لصناعة الثقافة". ولفت المتحدث انتباه الحضور عندما قال بحماسة "غيّرنا العقلية دون أن نغيّر الدستور، لأننا أدركنا بأن ثقافة السلام تولد اقتصاد السلام"، وأضاف "كل من يعيش في باليرمو يشعر اليوم بأنه في داره، في هذه المدينة ليس بيننا مهاجرين بل الجميع أصحاب دار".
تناولت الجلسة الثانية التي ترأسها رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية الكويتي الأسبق، الشيخ محمد صباح السالم الصباح، موضوع "حماية التراث الثقافي في العراق واليمن"، وتداول على الميكروفون كل من علي الشكري، ممثل العراق ومي آل خليفة، رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، وعبد الله لملس، وزير التعليم العالي اليمني، ويوسف كوران وزير التعليم العالي لحكومة إقليم كردستان العراق، ودار النقاش حول إشكالية حددها المنظمون تقول "العراق عند المؤرخين هي مهد الحضارة واليمن موطن لجمال معماري فريد له دلالة تاريخية هامة.. لقد وضعت الحرب والتطرف والعنف كل هذا في خطر. فمن بين أربعة وخمسين موقع للتراث، مصنّفة ضمن قائمة اليونسكو، هناك ستة مواقع "معرضة للخطر" في العراق واليمن، وقد تم بالفعل إلحاق خسائر كارثية بها". وحاول منشطو الجلسة الإجابة على عدد من التساؤلات المرتبطة بهذا الملف الشائك لعل من أهمها "كيف يمكن حماية هذه المواقع على أفضل وجه وإعادة بنائها إذا لزم الأمر؟ وكيف ستتحول حماية التراث الثقافي إلى خطط لبناء سلام مستدام في العراق واليمن؟ وما هي أفضل وسيلة يمكن للفاعلين الدوليين من خلالها دعم هذه العملية التي تقودها أطراف وطنية؟"
التعليم لتنمية ثقافة السلام
انطلقت الجلسة الثالثة من حتمية أن التعليم والتربية حجران أساسيان في بناء إنسان تجري ثقافة السلام في عروقه مجرى الدماء، فبداية التعايش تكون من المدرسة، والإرهاصات الأولى لتقبل الآخر تبدأ من الحضانة، وفيهما يتعلم الفرد كيف يحب وكيف ينبذ ثقافة الكراهية ومعاداة المختلف.. إنه حجر الزاوية في الموضوع كله وهذا ما فصّلت فيه شخصيات مرموقة اتخذت من تجربة التعليم وتنمية ثقافة السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى. وأوكلت مهمة إدارة النقاش لتيري رود لارسن، رئيس المعهد الدولي للسلام، واستمع الحضور في هذه الجلسة لمداخلات رئيس البرلمان المالطي الأسبق، مايكل فرندو ووزير التربية الكويتي، حامد العازمي ووزيري الخارجية والتربية في جمهورية إفريقيا الوسطى، سلفي بيبو تيمون وموكاداس نوري وعضو البرلمان الأوروبي، طوكيا سيفي ومستشار اليونسكو للتراث الثقافي الجزائري منير بوشناقي.
خطوة إلى الأمام
وخصص حفل اختتام المنتدى العالمي لثقافة السلام بلاهاي الهولندية لاقتراح خطوات عملية تدفع بالسلام العالمي عبر التأسيس لمناهج تعتمدها المنظومات التعليمية من الحضانة إلى الجامعة. فبعد كلمة رئيس الجالية عبد القوي أحمد يوسف، رئيس محكمة العدل الدولية، تدخلت شخصيات دولية مرموقة، بداية من رئيسة الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة، ماريا فرناندا إسبينوسا غارسيس عبر رسالة فيديو، وانتهاء برئيس تحالف الإصلاح والإعمار في العراق، عمار الحكيم، مرورا برئيس مجلس الأمة الكويتي، مرزوق الغانم، ورئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، فوستن أركانج توادارا ورئيسة مالطة السابقة، ماري لويز كوليرو ورئيس تركيا السابق، عبد الله غل، وممثل رئيس تونس، حسان العرفاوي، والمبعوث الخاص لرئيس ليبريا، لورنس كونملا. شهدت فعاليات الجلسة الختامية إطلاق عبد العزيز سعود البابطين، رئيس مؤسسة البابطين الثقافية، 17 منهجا تعليميا من أجل تدريس ثقافة السلام في العالم، من الحضانة إلى الجامعة، وقد سبق أن حظيت هذه المناهج بموافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقال البابطين "إن السلام هو حق لكل البشر، وقد جاء هذا المنتدى في وقت هو أحوج ما يكون فيه العالم إلى السلام وإرساء قواعد التعايش بين البشرية التي دخلت في العقد الأخير من الزمن أعتى حالاتها من النزاعات والصراعات الداخلية والخارجية". وأكد البابطين على ضرورة أن يكون السلام ثقافة الناس في سلوكهم اليومي وتفكيرهم. وشدد المتحدث على أهمية الإيمان بهذه الثقافة واستمرارها، من خلال العمل على تربية جيل واع وتكوينه بإعداده عبر دروس في ثقافة السلام. وأشار إلى كتابه "تأملات من أجل السلام" الصادر باللغتين العربية والإنجليزية سنة 2017 الذي ذكر فيه القاعدة السابعة الضرورية في السلام العادل وهي قاعدة التربية والتعليم. وأضاف أن "المؤسسة تقدمت نحو مرحلة جديدة اعتبرها مفصلية في تاريخ المؤسسة وتاريخ ثقافة السلام، ألا وهي إعداد المناهج الخاصة بتدريس ثقافة السلام العادل". وذكر عبد العزيز سعود البابطين، أنه يشعر اليوم بالراحة والطمأنينة والسعادة "إذ أنجزنا للإنسانية هذه المناهج"، مؤكدا أن "السعادة سوف تكتمل إذا تمت مباشرة تدريس هذه الأجيال التي هي أمانة في أعناقنا، ثقافة السلام العادل بشكل عقلاني فإن المعركة العادلة ليست معركة في الحرب بل معركة لأجل السلام العادل". وبيّن أن جملة هذه المناهج 17 منهجا يستعملها الطلبة بإشراف المدرّسين وبتوجيه منهم وهي حصيلة تفكير عقل بشري يجمعنا. وأكد المتحدث على أن "المبادرة كويتية عربية ساهم في إنجازها خيرة الخبراء من العالم بإشراف لجنة دولية". وأشار إلى أن "أعضاء اللجنة والخبراء هم أكثر من 20 دولة من العالم أي من ثقافات متعددة ويتقن كل واحد منهم في الحد الأدنى لغتين فأكثر". وذكر رئيس مؤسسة البابطين الثقافي، أن "هذه المناهج جاءت خلاصة أفضل ما هو موجود في برامج التدريس ومعتمدة أفضل وسائل التواصل التربوية الاجتماعية وبذلك يمكن لكل دولة في العالم أن تطبقها وأن تضيف إليها ما يتناسب مع ثقافتها". وأعرب عن الشكر للجنة الدولية المشرفة وكل الخبراء الذين حرروا هذه المناهج وفريق عمل المؤسسة الذي تابع كل مراحل الإنجاز في وقت يعتبر قياسيا. ودعا البابطين إلى العمل على تدريس هذه المناهج في جميع المجتمعات. وأعرب المشاركون في المنتدى العالمي لثقافة السلام، عن إشادتهم بنتائجه، مؤكدين أنه حدث مهم لنشر ثقافة السلام. وقال رئيس المعهد الدولي للسلام في نيويورك، تيري رود لارسن، لوكالة الأنباء الكويتية (كونا) "لقد كان حدثا ناجحا ومفيدا جدا في السعي لتحقيق السلام فيما يتعلق بدور التعليم وحماية التراث الثقافي والحفاظ عليه في الدول التي مزقتها الحروب". وقال لارسن الذي ترأس الجلسة حول تعزيز ثقافة السلام من خلال التعليم في المنتدى "لذلك، فإن مؤسسة البابطين قامت بعمل رائع". ولعب لارسن وهو دبلوماسي نرويجي دورا رئيسيا في مفاوضات التسعينيات التي أدت إلى اتفاقيات أوسلو وهي أول اتفاقيات على الإطلاق بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. كما شغل منصب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة وعمل بمنصب منسق الأممالمتحدة الخاص بعملية السلام في الشرق الأوسط. من جانبها، قالت السياسية الفرنسية وعضو البرلمان الأوروبي، تقية صيفي، إن انطباعها عن المنتدى كان "جيدا جدا". وقالت ل (كونا) "كان المنتدى مهما خاصة عندما ترى كل ما يحدث في العالم". وأضافت صيفي التي ألقت كلمة أمام المنتدى، أن البرلمان الأوروبي مهتم بتعزيز حوار الثقافات حول العالم وينشط في هذا الاتجاه. ووصف الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية عمرو موسى المنتدى ب "المهم للغاية" لما يحمله من رسائل سامية تخدم البشرية.