أجمع المشاركون في ندوة "الخبر" حول تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانوال ماكرون لمجلة "جون أفريك" ومقترحه "مصالحة الذاكرتين بدل تقديم الاعتذار عن جرائم دولته في الجزائر"، على أن الرئيس الفرنسي ولدواع سياسية، وقصد كسب المعارضين لسياسته قبيل حلول الانتخابات الرئاسية بفرنسا، عمد إلى هذه التصريحات لكسب التأييد واستعادة الثقة لضمان رهان السباق الرئاسي سنة 2022. أوضح الأكاديمي والباحث في تاريخ الثورة الجزائرية، الدكتور عمر بوضربة، أن ما يلاحظ على تصريحات ماكرون الأخيرة بشأن قضية الاعتذار الفرنسي عن جرائمها في الجزائر، هو تغيير في المصطلحات أو تلاعب في المصطلحات، وقال في تصريح ل"الخبر" إنه بدل "الاعتذار" والعمل لطي الملف نهائيا وهو مطلب غالبية الجزائريين وتصفية ملف العلاقات الجزائرية الفرنسية من أهم عنصر، كدّر صفوها وأعاق تطوّرها وتعميقها، راح واستبدله ب"المصالحة بين الذاكرتين"، ويرى بوضربة أنه مراوغة ومحاولة للمساواة بين الجلاّد والضحية بين المستعمِر والمستعمَر...؟! أرجع الدكتور بوضربة هذا التصرف من الرئيس الفرنسي إلى مجموعة من العوامل؛ منها ما تعلّق برواسب العلاقات التاريخية بين البلدين وعقدة الحكومات الفرنسية المتعاقبة أو الدولة الفرنسية في عدم الاعتراف بجرائمها تجاه الجزائر دولة وشعبا، وقال "وبذلك نسجّل التناقض الذي وقع فيه ماكرون بين ما وعد به في حملته الانتخابية لمّا زار الجزائر، وبين ما يطرحه اليوم، رغم أنه يسوّق لموقفه بتسليم جماجم زعماء المقاومة والمجاهدين الجزائريين في القرن 19 م، وهو غير كاف بنظري للوفاء بما وعد به ولتسوية ملف الذاكرة بين البلدين". يرى الدكتور بوضربة من جهة أخرى أن هذا التصريح الجديد للرئيس الفرنسي ماكرون يعدّ تراجعا لما تمّ تسجيله من تقدّم نسبي في ملف الذاكرة بين البلدين، وقال "ففي حين كنّا ننتظر كباحثين ومؤرخين إقدام الحكومة الفرنسية على خطوات إضافية لتسوية الملف بين البلدين، عادت أدراجها من خلال هذا التصريح أشواطا إلى الوراء...". ويعتقد بوضربة بأنّ الكرة الآن في مرمى الجزائر "حكومة وشعبا" بكل فعالياته لأن نبدي الحزم اللازم من خلال استغلال عوامل قوّتنا مثل العامل الاقتصادي وتفعيل الضغط الإعلامي وفضح الممارسات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر (1830-1962)، ولتحقيق ذلك لم لا سن قانون لتجريم الاستعمار من طرف غرفتي البرلمان كرد على تصريحات ماكرون وعلى قانون تمجيد الاستعمار الذي سنه البرلمان الفرنسي في 2005، وصرح "فمثلما انتزعنا استقلالنا بقوة السلاح وبالمقاومة في شتى المجالات، بإمكاننا اليوم أن ننتزع الاعتراف بالجرائم الفرنسية إذا توفّرت الإرادة السياسية وإذا وظفنا عوامل قوتنا".
تصريحات ماكرون كانت لدواعي الانتخابات ومغازلة اليمين المتطرف يرى الأستاذ رابح لونيسي أن هناك تراجعا لدى ماكرون في ملف الذاكرة، وقال في تصريح ل"الخبر" إن ذلك يظهر بجلاء من خلال توظيفه لمصطلح جديد، وهو مصالحة الذاكرتين الذي يحمل دلالات أخرى تماما، حيث قال "عندما نتحدث عن تصالح بين ذاكرتي دولتين مثل الجزائروفرنسا الذي يتحكم في كلتا ذاكرتهما الماضي الاستعماري الفرنسي باعتدائها وجرائمها في الجزائر، فالمصطلح الجديد المستخدم من ماكرون يوحي كأن هناك ليست فرنسا الاستعمارية هي فقط التي اعتدت وارتكبت جرائم، بل كأن هناك ظلم وجرائم من كلا الطرفين"، واعتبر لونيسي هذا الأمر بالخطير في هذا الكلام، فماكرون الذي ندد حسبه بالاستعمار معتبرا إياه جريمة قبل وصوله إلي السلطة، وقال إنه من جيل الشباب ولا علاقة لجيله لا بالثورة ولا بالاستعمار، فحتى ولو تراجع حسبه نوعا ما عن تصريحاته فيما بعد تحت ضغط اليمين المتطرف ولوبيات الأقدام السوداء، إلا أنه رغم ذلك بقي دائما يوحي كأنه على استعداد لتجاوز ملف الذاكرة، بل حتى التضحية به من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية، ولهذا أوضح لونيسي أنه يمكن أن يعتبر التصريح والمصطلح الجديد لماكرون تطورا مفاجئا للذين كانوا ينتظرون منه الاعتراف رسميا بجرائم الاستعمار، خاصة بعد لعبه دورا ايجابيا في قضية الجماجم منذ أشهر. كما طرح لونيسي جملة من الأسئلة "ما الذي حدث مع ماكرون؟ فهل يريد إحراج الرئيس الجزائري الذي عمد إلى تحقيق ذلك لاكتساب نوع من شرعية؟ فهل لاحظ ضعفا لدى الجزائر، فتراجع؟". وأضاف يقول "فإن كانت هذه الأسئلة مشروعة، إلا أنني أعتقد أن ماكرون ما يهمه هو الانتخابات الرئاسية والسعي إلى مغازلة اليمين المتطرف من خلال هذا التصريح، وقد سبق ذلك حملته ضد الإسلام والإساءة إلى سيدنا محمد (ص) تحت غطاءات شتى، كحرية التعبير وحماية العلمانية التي ناقضها ماكرون بمواقفه تلك، لأن من أهم مبادئها حماية كل الأديان والمقدسات واحترامها ووقوف الدولة نفس المسافة تجاهها". وأوضح لونيسي أن هدف ماكرون من تصريحه الجديد عن الذاكرة وتهجمه على الإسلام من قبل، هو مغازلة لليمين المتطرف الذي يتصاعد، وتدخل في إطار حملة انتخابية بحتة في نظرنا.
لا يجب أن نربط تاريخنا بفرنسا.. الجزائر استقلت في 1962 قال الدكتور عمار محند عامر، مؤرخ وباحث في كراسك وهران، إنه كمواطن ومؤرخ جزائري لا ينتظر الاعتذار والتوبة من فرنسا على جرائمها في الجزائر، وقال في تصريح ل"الخبر" بأن الجزائر انتزعت استقلالها سنة 1962 وقضية الاعتذار تهم أكثر جمعيات الذاكرة أو الدولة أو بعض الأطراف التي تستثمر في الذاكرة، ويعتقد عمار محند عامر أن الخطر هو أن نغرس في روح الشباب هذه الفكرة الخطيرة التي هي "ما دام فرنسا لم تقدم الاعتذار، فالاستقلال ناقص؟"، وأضاف "انتهينا مع فرنسا الاستعمارية في جويلية 1962". وتحدث عمار محند عامر عن موضوع الذاكرة وأبدى الباحث رفضه للاستثمار فيها، ويرى أنه من حق أي بلد الدفاع عن ذاكرته كما يريدها، وحسب مصالحه، وقال "كفانا من هذا الزواج الحتمي مع فرنسا، فلا يجب أن نربط تاريخنا بفرنسا، لأن تاريخ الجزائر طويل وعريض"، كما أوضح بأن الاهتمام المفرط بتاريخ الجزائر مع فرنسا أدخلنا في مأزق الحديث دائما مع فرنسا. يعتقد الدكتور عمار محند عامر أن كل دولة تدافع عن مصالحها مهما كانت، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بدايته كان في منطق التهدئة بأقوال وأفعال، لكن هذه السنة وفي الفترة الأخيرة مع قرب الانتخابات الفرنسية القادمة وكرجل سياسي دخل في منطق آخر؛ وهو كيف يجلب إليه الملايين من الفرنسيين الذين لم يقبلوا منطقه الأول الذي كان منطقا ايجابيا في راية، وحسب الدكتور محند عامر فان ماكرون أراد أن يطوي الصراعات ويبني صرحا جديدا للعلاقات الجزائرية الفرنسية، لكنه يبقى رئيس فرنسا ويعمل حسب مصالحه ومصالح بلده. وأوضح "نحن كجزائريين يجب أن نبني تاريخنا وذاكرتنا حسب مصالحنا كجزائريين"، مؤكدا أنه اليوم هناك مؤرخون جزائريون شباب وحتى من بقية العالم يهتمون بتاريخ الجزائر، خاصة الحقبة الاستعمارية وقرار الرئيسين الجزائري والفرنسي إعطاء قراءة جديدة لملف الذاكرة يعتبر إجراء جيدا. كما يعتبر الدكتور عمار محند عامر الحنين إلى الماضي جيدا، لكن الأولوية اليوم، حسبه، لأرشيف التاريخ الجزائري، خاصة تاريخ الثورة الذي يوجد بفرنسا، لهذا يرى أنه على الدولتين خلق ميكانيزمات جديدة تسمح للمؤرخين، خاصة الشباب، بأن يقوموا بعملهم في ظروف جيدة، وصرح بقوله "قبل أن نطلب استرجاع الأرشيف من فرنسا، يجب أن نفتح أرشيفنا في الجزائروفرنسا لم تقدم أرشيفها للجزائر؛ لأنها تعتبره من ثروات الوطن وكل بلد يرى الأرشيف ثروة وطنية، لذلك أقول كفانا من المغالطات والدوغماتية والديماغوجية حول قضية الأرشيف والذاكرة"، وأضاف "نريد اليوم بناء ودعم التاريخ الوطني بدراسات وأبحاث جدية وأكاديمية".
ما صرح به ماكرون هو الأصل ولم يقع أي تراجع أو تغيّر في الموقف الفرنسي من جهته، تأسف الدكتور مبارك جعفري من جامعة أدرار من تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون وقال ل"الخبر" إنه في الوقت الذي كان الشعب الجزائري يتطلع إلى اعتذار فرنسي صريح وواضح، عما اقترفته القوات الفرنسية في الجزائر من جرائم طيلة 132 سنة من الاستعمار، وخاصة بعد التقدم الطفيف الذي عرفه موضوع الذاكرة بين البلدين في الصيف الماضي، وتسلم الجزائر رفات 24 من شهداء المقاومة، يطل علينا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتصريح أقل ما يقال عنه استفزازي لمشاعر الشعب الجزائري، واستخفاف بأرواح الملايين من الضحايا. وأوضح جعفري أنه زيادة على ذلك جاء التصريح في توقيت حساس وظرف عصيب على الشعب الجزائري على أكثر من صعيد، وقال "وهو لم يحترم لا واجب التحفظ، خاصة وأن تصريحاته المسيئة حول الرسول لم ينته الحديث عنها بعد". وذكر جعفري أن تصريحات ماكرون تبرهن على أن عقلية الساسة الفرنسيين لن تتغير، فهي تنحني أمام المصالح، لكنها لن تحيد عن أهدافها مع مرور الزمن، ويرى جعفري أنه لا يمكننا الرهان على وخز الضمير الذي قد ينتاب الساسة الفرنسيين، ومنهم ماكرون، لمعالجة هذا الملف، مؤكدا أن غالبيتهم امتداد لمدرسة استعمارية عريقة في الاستغلال والظلم، تنظر بدونية وفوقية لشعوب المستعمرات، وهي ترى حسبه في تلك الممارسات شيئا طبيعيا وأنها ضمن رسالة الرجل الأبيض التمدينية، مدرسة عرابها (جول فيري) صاحب المقولة الشهيرة: "(حرية، مساواة، أخوة) لا تصلح للشعوب المستعمرة". وحسب الدكتور جعفري، فإن ملف الذاكرة بين الجزائروفرنسا لن يحمل في المستقبل أي تطورات إيجابية ما لم يقرن بضغوط اقتصادية، رسمية كانت أو شعبية.. "وقد رأينا مؤخرا كيف تغير موقف الرئيس الفرنسي من الرسوم المسيئة للرسول بعد حملة المقاطعة للمنتجات الفرنسية التي شهدها العالم الإسلامي"، مؤكدا في السياق نفسه أن ما صرح به الرئيس الفرنسي هو الأصل ولم يقع أي تراجع أو تغير في الموقف الفرنسي، بل ما تم سابقا من تصريحات كان مجرد شطحات سياسية فرضتها المصلحة، والآن عاد ليصرح بما يؤمن به.